السيّد علي فضل الله ل ” اللواء” في أجواء المولد النّبويّ الشَّريف: نماذج التديّن الشّكليّ ناجمة عن الخلل في بنية الفكر والعقيدة

خاص – اللواء الإسلامي:
«تمثّل ذكرى المولد النبوي الشريف محطة من المحطات التي يمكن أن تساهم في توحيد المسلمين، وتعميق روح الأخوة فيما بينهم، فشخصية الرسول الأكرم صل الله عليه وسلم هي الشخصية الأشدّ حضوراً في الواقع الإسلامي كله، فهي الحاضرة في صلواتنا وتضرعاتنا إلى الله، وهي القيادة التي نستمد منها شرعية الحركة والحكم والفتيا وما إلى ذلك، وإذا كان القرآن الكريم قد قدّم لنا رسول الله صل الله عليه وسلم في قيمه العالية والسامية كنموذج للمسلمين وللبشرية في خلقه العظيم وتواضعه الجّم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وفي حنوه وعطفه على المؤمنين: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}… فمن الطبيعي أن يؤكد على المسلمين جميعاً الالتزام بتعاليمه في العمل على أساس الأمة الواحدة الرافضة للتنازع: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}..».

بهذه الكلمات وصف العلامة السيد علي فضل الله ذكرى مولد النبي صل الله عليه وسلم، وبهذه العبارات شرح طبيعة العلاقة التي لا بد أن تكون بين كل مسلم مؤمن وبين النبي صل الله عليه وسلم..
فمشكلتنا أننا ابتعدنا جميعاً في حركتنا ونشاطنا وتطبيقاتنا العملية عن سنّة الرسول الأكرم صل الله عليه وسلم، وهذه المشكلة سببها الرئيس يعود إلى افتقادنا للنموذج الذي يعمل على تجسيد سنة الرسول صل الله عليه وسلم في كل أمور حياة الناس ليعملوا على الاقتداء به والسير على نهجه بعيداً عن المتاهات التي أنتجتها هذه الفئة أو تلك.
والقرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي أنزله بالحق عندما قدّم لنا الرسول الأكرم صل الله عليه وسلم قدّمه كنموذج لكي نقتدي به فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.. فقدّمه وهو في قمة التواضع، وفي أعلى مستويات الصبر، حيث كان يجوع مع الجائعين، ويحرص على الدفاع عن كل المظلومين، ويصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ويرقّ ويلين مع المؤمنين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}.. وينفتح على كل الناس، ويحمل همومهم ومشاكلهم، ويعمل على حلها…
ولكن أين كل هذه الصفات الراقية التي أوصانا به النبي صل الله عليه وسلم عندما نتابع المشهد الإسلامي العام؟…
إننا وللأسف الشديد لن نرى المسلمين إلا وقد تفرّقوا وتشتتوا حتى أصبحوا جماعات بدلاًً من أن يكونوا أمة واحدة، وبات كل فريق يقدّم نفسه وكأنه الذي يمثل الإسلام النقي مستبعداً الآخرين في عملية إلغاء وإقصاء بعيدة عن روح الحوار والوحدة التي أرادها الإسلام منا حيث أكد عليها الله تعالى في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}..
فكيف نحتفل حقاً بذكرى الولد النبوي الشريف…؟
وبأي أسلوب بكون فعلاً من أتباع النبي صل الله عليه وسلم…؟ 
ولماذا انتشر الإيمان القولي وغاب الإيمان العملي التطبيقي عن حياة الناس..؟!
هذا ما سنناقشه في الحوار التالي مع العلّامة السيد علي فضل الله..

مفهومان لا بد منهما
* بداية سماحة السيد لماذا أصبح احتفالنا بالمولد النبويّ الشّريف مجرّد أقوال وخطابات، وابتعدنا عن العمل، كما أمرنا النّبي صل الله عليه وسلم؟
– ترتبط رمزيّة الاحتفال بالمولد النبويّ الشّريف بمفهومين؛ أولهما تعظيم هذه المناسبة المباركة، بوصفها من شعائر الله، وما يتصل بها من دلالة الارتباط بقيم الرسول والرسالة، والثاني استحضار هذه الذكرى في إطار إحياء الذاكرة الإسلاميّة المضيئة بتاريخها المشرق من جوهر إيماننا وصدقية العقيدة، التي لا تفصل بين الإيمان والعمل الصّالح، فإذا شهدنا في الراهن الإسلامي المعاصر فجوة عميقة بين إيمان المسلم وسلوكه، فهذا ناجم عن واحدة من أزمات التديّن، الَّتي لم يسلم منها دين من الأديان، فلم تكن هذه الأزمة ــ أي أزمة فصل الإيمان عن العمل – حالة طارئة مع الاجتماع الدّيني بعامّة، والاجتماع الإسلامي بخاصّة، بل هي في واقع التديّن ومشكلاته على أرض الواقع، من الظواهر التي تكشف عن نموذجين من نماذج التديّن الشّكليّ أو السّطحيّ.. أحدهما ناجم عن الخلل في بنية الفكر والعقيدة، فترجع أزمة الفصل بين الإيمان والعمل، إلى أزمة الوعي بالدين، وما يترتب على هذا الوعي من مسؤوليات والتزامات.. وثانيهما ناجم عن ضعف النّفس والإرادة في مجال السّلوك، وتحّمل تكاليف العمل، ولا سيما في كثير من الفرائض الإسلاميّة، الّتي تستدعي استنفار حسّ المجاهدة، وبذل الجهود لترجمة الإيمان الصّادق إلى واقع ينبض بالحياة.

ظاهرة النّفاق
* من المسؤول، في رأيكم، عن ظاهرة الإيمان القوليّ الّذي أصاب المجتمع؟ وكيف نعيد تثبيت ثقافة الإيمان العمليّ في نفوس النّاس؟

– في سياق الإجابة عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى عاملين من عوامل استشراء هذه الظاهرة في الحياة الإسلاميّة، من بداية التاريخ الإسلامي وحتى اللحظة الراهنة.
العامل الأول: ارتباط هذه الظّاهرة بنشوء ظاهرة النّفاق الّتي تسلَّلت إلى الاجتماع الإسلاميّ في وقت مبكر من تاريخه، وساهمت في تشويه صورة الشخصيّة الإسلاميّة، وذهبت بعيداً في مآلات انقسامها وازدواجيتها، ولا سيما مع تفاقم الصّراعات السياسيّة، وبروز الانقسام الإسلاميّ – الإسلاميّ، وسوى ذلك من التّحدّيات الَّتي ضربت البنيان الإسلاميّ وهويّته، لينتهي الأمر في الواقع إلى ما نراه من انفصال الفكر عن التربية الإسلاميّة، وانفصالهما معاً عن روح الإسلام وشريعته.
العامل الثاني: ارتباط هذه الظّاهرة بتلك المراحل الزمنيّة التي مُني بها المسلمون بأمراض العجز والجهل واستلاب الإرادة.
وما من شك في أنَّ إعادة تثبيت ثقافة الإيمان العمليّ في دنيا المسلمين، تحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت إلى مراجعات نقديّة تنطلق من وجوب النّهضة والحذر واليقظة، كي لا تتحوّل الهزائم السياسيّة والعسكريّة الَّتي ابتلي بها المسلمون إلى هزيمة نفسيّة وثقافيّة، وتالياً إلى هزيمة حضاريّة.
والحديث عن المسؤوليّة في هذا المجال، برسم أبناء الأمّة جميعاً، قيادات وحكومات وعلماء ومفكّرين ومصلحين ودعاة، على قاعدة الإرشاد النبويّ المبارك: «كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته».

ترسيخ ثقافة الحوار
* في خضمّ الحروب والنّزاعات الدّائرة من حولنا، أيّ دور وأي أهميّة لثقافة الحوار، بدءاً من المنزل والأسرة، وصولاً إلى أكبر المستويات؟
– من الواضح أنَّ جانباً من هذه الحروب والنزاعات قد نشب، وبكلّ أسف وحزن ومرارة، بين أبناء الأمّة الواحدة.. وبمعزل عن العوامل السياسيّة المؤدية إلى هذه الحروب، إلا أنَّ خطورتها تكمن في انزلاقها إلى حضيض الفتن العمياء، الَّتي تصادر دور العقل، ودور حكماء الأمّة وعلمائها، في إخمادها وإطفاء حرائقها.. ولا يمكن الحديث في هذا النفق المظلم عن بارقة أمل لوضع نهاية لهذه الحروب العبثيّة، إلا بالرجوع إلى منطق الحوار المستند أساساً إلى ثوابت عقيدتنا وقيمها الأخلاقية في الإخاء، والتعاون على البرّ والتّقوى، وتحريم سفك الدّماء بجميع أشكاله، وإنقاذ مصير أطفالنا وشبابنا من هذا الخراب الّذي يقود المستقبل الإسلاميّ إلى المجهول، لا بل إلى المجاهيل الكارثيّة.
ومن هنا، كانت مناداتنا في الماضي والحاضر إلى أن نعتصم جميعاً بحبل الله، وإلى أن نعود جميعاً إلى سيرة النّبيّ وسنّته الطّاهرة، فلا يجوز بأيّة حال من الأحوال، أن تتحوّل الخلافات بين المسلمين إلى عداوات، ولا يجوز أن تكون الأمّة وقوداً ومحرقة لحروب الآخرين على أرضها.
وعندما نعلن أنَّ الحوار هو الحلّ، وأنّ المصالحة والصّلح بين المؤمنين واجب شرعيّ على الجميع، فمعنى ذلك هو الالتزام بالمنهج الأخلاقيّ لحلّ نزاعاتنا، وبثقافة العدل والتّسامح، واحترام التنوّع المذهبيّ، وإعداد البرامج التربويّة والروحيّة الّتي تردّ إلى جسد الأمة مناعتها وقوّتها، وتوحّد كلمتها على عين الله ورضاه، انطلاقاً من المنزل الصّغير، وصولاً إلى بيوتنا المفتوحة على بعضها البعض، تحت راية الأمَّة الواحدة.
ومن هنا، كنا نناشد مواقع القرار السّياسيّ والدينيّ والثقافيّ والاجتماعيّ، إطلاق المبادرات السّلميّة الّتي تحفظ وحدة الدّين والأمّة، ولا سيّما بعدما تبيَّن للجميع بأنَّ المستهدف الأول من وراء هذه الحروب والنزاعات، هو تشويه صورة الإسلام، وتمزيق الشّعوب الإسلاميّة، وصولاً إلى تقسيم الجغرافيا الطبيعيّة، وفقاً لمشاريع الاحتلال الرامية إلى تدمير الواقع الإسلاميّ بجميع مكوّناته.

لضبط الخطاب الديني
* ما هي وصيتكم للمسلمين جميعاً في هذه المناسبة؟
-ـ أوصي نفسي، وأوصي المؤمنين جميعاً بتقوى الله في الأمور كلّها، وإصلاح ذات البين، فإنّها من أفضل الطّاعات، والاقتداء بنهج نبيّنا المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، في التواصل، والتراحم، والتكافل، والدعوة إلى هذا النهج المبارك بالحكمة والموعظة الحسنة، والالتزام بمسؤوليّة الكلمة، وضبط الخطاب الإسلاميّ والإعلام الدّينيّ، بعيداً عن التّحريض المذهبيّ وشعارات الفتن الطائفيّة، واحترام رموزنا الإسلاميّة جميعها، والاهتداء بنور القرآن الّذي يهدي للّتي هي أقوم، لكي نكون الأمّة القرآنيّة، ونكون المسلمين القرآنيّين المؤمنين بأنَّ العلاقة بين المسلم والمسلم، هي علاقة الإخاء في الله، وأنَّ الرباط بين المسلمين كلّهم، هو رباط الأمّة الواحدة والعائلة الواحدة، وأن نوجّه أبصارنا جميعاً نحو القدس الشَّريف والمسجد الأقصى، فلن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها، أي بكلمة التّوحيد، وعمارة العقول والقلوب بتقوى الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}، فإلى الله يصعد الكلم الطيّب، والعمل الصّالح يرفعه، والمسلم في شرق العالم وغربه، أمين على رسالة ربّه وسيرة نبيّه.. وهو مسؤول أمام الله سبحانه عن سمعة إسلامه، وعن حقوق أمّته، وحفظ مصالحها وقيمها، وسعيها الدائم لأن تكون خير أمّة أخرجت للناس، بفرادة مزاياها في التّوحيد والأخلاق. 

 

المصدر: صحيفة اللواء.

Leave A Reply