كلمة سماحته في الجامعة اليسوعية عن وهب الأعضاء
في البداية، لا بدَّ من تقديم أسمى آيات الشّكر والتَّقدير للَّذين نظَّموا هذا المؤتمر في هذا الصَّرح العلميّ الكبير، للحديث عن وجهة نظر الدّين في أمر مهمّ، هو التبرّع بالأعضاء في الحياة أو بعد الموت، لكونه يهمّ شريحة من المجتمع، ممن فقدوا أعضاء من أجسادهم، نتيجة نقص فيها، أو بسبب مرض أو حادث، بعد أن صار بالإمكان للطبّ والعلم أن يؤمّن لهم البديل، من متبرعين أحياء أو أموات.
دور الدّين أساسيّ
ولا يشكّ أحد في أهميّة تشريع وهب الأعضاء في الحياة أو بعد الموت في حياة الكثيرين من الناس، أو في تفعيل دورهم وبعث طاقاتهم. ونحن عندما نتحدَّث عن نظرة الدّين، فإننا لا نغفل أدواراً أخرى لها تأثيرها في الدّفع بهذا المجال، لكن يبقى للدّين الدور الأساس في التّحفيز والتّشجيع، أو في عدمه، ولا سيَّما عندما يتعلّق بالتبرع بأعضاء الجسد بعد الموت، إن تحفظ الدين على ذلك، وهذا الموضوع لا ننفي عنه بعداً إشكالياً، لكونه يتَّصل بحدود سلطة الإنسان على جسده في الحياة وما بعد الموت.
فما هي نظرة الدّين؟ وبالخصوص، ما هي نظرة المذهب الشّيعي، لكون المطلوب مني أن أبيّن هذه النظرة؟ ولا بدَّ وقبل الدخول في بيان رأي المذهب الشيعي في ذلك، من أن أتحدث عن تنوّع في الاجتهاد الفقهيّ لدى هذا المذهب وتعدّده، وهذا ما يجعل الآراء الفقهيَّة متحركة غير ثابتة على رأي واحد، وهي قابلة للتطوّر في كلّ مرحلة، وأنا في عرضي لآراء المذهب الشّيعيّ، سأكتفي ببيان الآراء الفقهيّة الأخيرة الّتي وصل إليها هذا الاجتهاد.
أروع صور العطاء
من ناحية المبدأ، يتّفق الرأي في الاجتهاد الشيعي الآن، كما كلّ الأديان، على جواز هبة الأعضاء في حال الحياة وبعد الموت، وإن كان هناك بعض الخلاف حول التفاصيل، بل أكثر من ذلك، هو يحثّ عليه، ويعتبره من أفضل الأعمال الَّتي يقوم بها الإنسان، لكونه يدخل في باب الإيثار الّذي يمثّل أعلى درجات المكارم في السّلم الأخلاقيّ. ولعلّ أروع صور العطاء وأرقاه، أن يؤثر الإنسان أخاه الإنسان على نفسه، وأيّ إيثار أكبر من أن يؤثر الآخر في عضو من أعضاء جسده، أي كما يقال، من لحمه الحيّ، لا من فاضل عنده!
مواجهة إشكال
وبناءً على ذلك، نستطيع القول إنّ هبة الأعضاء لم تعد أمراً جائزاً فقط، بل أكثر من ذلك، هي من أهمّ المستحبّات، بل تكاد تصل إلى اعتبارها واجباً، وهذا عندما تتوقّف حياة إنسان على هذه الهبة.
هنا، قد يُطرح إشكال، وهو أنَّ الشَّريعة تعاملت مع جسد الإنسان أنّه ملك لخالقه، ولذا، نرى في التَّشريع أنّه لا يحقّ للإنسان أن يسيء إلى جسده، أو أن يعطّل طاقة من طاقاته، وصولاً إلى أن ينهي حياته، فهو ليس حرّاً في ذلك.. فكيف يمكن له أن يهب عضواً من أعضائه؟ ومن أين يأتي بالصّلاحيّة؟ ومن أجازه فيها؟
والجواب عن ذلك يستند إلى عدة أدلة:
الدّليل الأول: إننا نستقي هذه الصّلاحية من القيم التي دعت إليها كلّ الديانات، فقد حثَّت الإنسان على البذل والعطاء والتضحية والإيثار غير المحدود، وفي الحديث النبوي: "أن الإنسان لا يكون مؤمناً حتى يحبّ لأخيه (الإنسان) ما يحبّ لنفسه"، و"إنَّ خير الناس من نفع الناس"، وقد ورد في القرآن الكريم: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}، فكلّ هذه القيم تدعو الإنسان إلى أن يعطي.
الدَّليل الثاني: هو وجود قاعدة فقهيَّة، وهي أيضاً قاعدة عقليَّة تقول إنه إذا تزاحم بقاء حياة إنسان على خسارة إنسان آخر لعضو من جسده إذا كان حياً، وهو بالطبع لن يؤثر عليه إذا كان ميتاً، وللأهميّة، تقدّم حياة الإنسان على الخسارة التي تلحق بجسد الإنسان الحيّ.
الدليل الثالث: هو حصول مثل هذا الأمر في حياة رسول الله وأئمة أهل البيت، الذين كانوا يجيزون لمن يسألونهم، أن يأخذوا أسناناً من أموات ليستخدموها، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق أنه لما سُئِل الرجل: يسقط سنّه فيأخذه إنسان من إنسان ميت، فيجعله مكانه، فقال(ع): "لا بأس".
وقد جاء هذا الموقف في وقت لم يكن التطور العلميّ وصل إلى ما هو عليه، ولو كان أكثر من ذلك، لأجاز أموراً مماثلة.
لا تمييز في التبرّع
إذاً، التبرع بالأعضاء هو حقيقة دينيَّة دعا إليها الدين وأكّدها. وتبقى هناك نقطتان:
النقطة الأولى: هل وُضعت قيود ما للمتبرَع له؟ في الجواب عن ذلك، نقول: لقد تجاوز الإسلام، وبالطبع المذهب الشيعيّ، الانتماء الدّيني في عمليَّة الوهب أو التبرع، كذلك عنصر القرابة أو الجنس، تماماً كما هو الحال مع الصّدقة التي لا يحدّدها الانتماء الديني، بل الحاجة. لذا، يحصل الإنسان على نتائجها عند الله، حتى لو كان متلقّي الصدقة مختلفاً في الدين أو المذهب، وحتى ممن لا ينتمي إلى دين، فالعطاء الإنساني لا بدّ من أن يكون كعطاء الله الَّذي يفيض على كلّ عباده، لذلك، شمسه تشرق على الجميع، ومطره ينزل للجميع، وأرضه تتَّسع للجميع.
تحفّظ على البيع
النقطة الثانية: هل يجوز البيع؟
من ناحية المبدأ، لا يجوز لأيّ إنسان أو وريث، أن يبيع عضواً من جسده أو عضواً من جسد ميت، لأنَّ البيع فرع الملك. نعم، إذا كان هناك من مال يعطى، فهو تعويض عن الضَّرر الماديّ والمعنويّ الَّذي قد ينتجه التبرّع، وإن كنا ندعو إلى عدم الدّخول في هذا الأمر، لإساءته إلى الإنسان، ومنعاً من الاستغلال، مما بات يعرف بتجارة الأعضاء في العالم.
شروط وقيود
هذا كلّه من ناحية القاعدة، وبالدّخول إلى شروط الهبة، هناك حالتان تحصل فيهما الهبة:
الحالة الأولى: أن تحصل من حيّ، فهذا التبرّع جائز، شرط أن يكون المتبرع واعياً لما يقوم به، وباختياره، وأن لا يكون التبرع سبباً لإنهاء حياته، أو لتعطيل قدرات حيويّة وأساسيّة، مثل يده أو رجله أو عينيه، مما يرتّب عليه أضراراً تعيق حركة حياته. نعم، يمكن مثلاً أن يهب كليةً من كليته، شرط أن تكون كليته الأخرى سليمة.
الحالة الثانيةً: الهبة الَّتي تحصل بعد الموت، ولها شرطان؛ الشّرط الأول عند بعض الفقهاء، أن يؤخذ العضو بعد الموت التامّ للإنسان، بمعنى توقّف قلبه وكلّ أجهزة جسمه، لكنَّ هناك رأياً فقهيّاً نتبناه، وهو أنه يكفي تحقّق الموت الدّماغيّ حتى يجوز أخذ أجزاء منه، على أن تكون الهبة موثّقة بوصيّة، أو تتمّ بموافقة شفهيَّة قبل موته، لأنّ الوصيّة تتم باللفظ، وإن كان الأفضل أن تكون مكتوبة، وهذه الوصيّة عندما تحصل، تكون ملزمة لورثة الميت.. فلا يحقّ لهم تبديلها أو حتى التباطؤ في تنفيذها لأيّ سببٍ، سواء أكان ذلك منطلقاً من رفضهم الفكرة أصلاً، أو بسبب حالة عاطفيّة، والعكس صحيح.
لكنَّ هذا الشّرط؛ شرط الوصيّة، قد يرتفع إذا توقفت حياة إنسان آخر على أخذ العضو من الميت، ولكن قد يطرح سؤال: هل يشترط إجازة الورثة؟ الجواب أنّه أفضل مراعاة لمشاعرهم، لكن في ظلّ الضّرورة، يكفي أن يستند إلى الحكم الشّرعيّ.
ثمة سؤال آخر يتصل بحرمة الجسد وهو: هل هناك شروط في هذا المجال؟ هنا، يقال: نعم، ورد في الحديث: "إنَّ حرمة الإنسان ميتاً كحرمته حياً"، وهي تعني احترام جسد بعد الموت، كما هو حال الحياة. ولذلك، لا بدَّ من توفير كل المستلزمات التي تضمن احترام جسد الميت بعد أخذ العضو منه، بحيث يرمم الجسد، ويدفن وفق الأصول الشرعية للدفن.
هذه بعض التفاصيل الفقهيَّة، وقد أحببت أن أوردها آملاً أن أكون استوفيت موضوع المحاضرة. وقد تأكّد لنا حرص الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، على التشجيع على التبرع بالأعضاء خلال الحياة وبعد الموت، انطلاقاً من إيماننا بأن الدين لم يدع الإنسان إلى خدمة كيانه ووجوده فقط، بل دعاه إلى أن يأخذ بعين الاعتبار حاجات الإنسان الآخر.
جهود لإزالة الأوهام
ويبقى أن نشير إلى أنه لا يكفي أن نؤكّد إجازة الدين للتبرّع، بل لا بدّ من أن يُعزّز ذلك بالعمل على إزالة كلّ الأوهام النفسيّة وغير النفسيّة الّتي لا تزال حاضرة في واقعنا، والتي قد تنسب خطأ إلى الدّين، والّتي تمنع الإنسان من أن يوصي بشيء من أعضائه لمن يحتاجها بعد وفاته.. وهذا يحتاج إلى جهد تربويّ وإعلاميّ وتثقيفيّ، ودور فاعل لرجال الدّين وعلماء التّربية ووسائل الإعلام، وذلك لتأكيد النّقاط التالية:
أولاً: إبراز الآثار الإيجابيّة الكبرى التي تترتّب على التبرّع في حياة الإنسان المتبرّع له، وعند الله سبحانه للواهب.
ثانياً: توسعة عنوان الصّدقة والزكاة، لتشمل التبرع بالأعضاء، ولا تبقى عند حدود المال أو العطاءات المعروفة.
ثالثاً: دعوة الأشخاص الّذين يملكون حضوراً دينياً أو لهم مواقع اجتماعيّة، ليبادروا إلى القيام بهذا العمل، ليكونوا قدوة للآخرين.
رابعاً: تكريم الأشخاص الَّذين بذلوا هذا العطاء، لتشجيع الناس وتحفيزهم على ممارسة الأمر نفسه.
تفاعل العلم والفقه
في عالم الطبّ، قد لا تمرّ ساعة إلا وتحمل لنا إمّا اكتشافاً جديداً أو ملامحَ اكتشاف جديد.. واليوم، يتردَّد موضوع الخلايا الجذعيّة (stem cells)، التي قد تكون سبيلاً لتأمين أعضاءٍ يحتاج إليها الإنسان، فتحلّ له الكثير من آلامه ومشاكله الصّحيّة، لعلّه يحظى بحياة نوعيّة أسمى.
لهذا، نأمل أن يحظى موضوع وهب الخلايا الجذعيّة بالأولويَّة في التّدارس والمناقشة والتحليل من قبل الفقهاء والمشرّعين الدّينيين، لتوفير الإجابات وتيسير أمور النّاس، الّذين تمثّل لهم الفتاوى تشريعاً لحركتهم. ونحن من ناحية المبدأ، لا نرى مانعاً في تحقيق هذا الأمر.
وهنا، اغتنمها فرصة لأدعو إلى تقريب المسافة بين حركتي البحث العلميّ من جهة، والبحوث الفقهيَّة من جهة أخرى، بجهد من الطّرفين، فيأخذ العلم نظرة الدّين في الحسبان، لما له من بعد روحيّ وأخلاقيّ وإنسانيّ، ومن تأثير كبير في قرارات شريحة واسعة من الناس، ليجري نقاش واسع حول هذه القضايا الحسّاسة، مما ينعكس إيجاباً على تطور حركة العلم، من خلال انفتاح الدين على التطور العلمي الَّذي يصبّ في مصلحة الإنسان. وفي الوقت نفسه، ندعو الفقهاء والعلماء إلى أن يواكبوا حركة العلم، وأن يزيلوا العوائق من طريقه، ليساهم في خدمة الإنسان والحياة.
كما نأمل أيضاً أن تكون الطّروحات الفقهيّة ملهمة للباحثين العلميين، لأنها أولى بالاهتمام بمصلحة الإنسان والرفق بهِ ومباركته وإحيائه، وهي من يمكنها النظر إلى الأمور من عدة زوايا جسدية وروحية خاصة وعامة، ولتشكّل بمنظومتها الأخلاقيّة الضابطة لحركة العلم في الكثير من الأحيان الّذي يوجّه إليه أكثر من علامة استفهام في جنوحه نحو الكسب والمادّيَّة.
وأخيراً، لا بدَّ من كلمة تقدير لكلّ الذين يبذلون جهداً في هذا الميدان الإنساني، الذي يتجلّى فيه العطاء في أفضل الصّور وأبهاها، آملين أن نسعى معاً ونعمل معاً، انطلاقاً من إيماننا: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}(النجم 39، 40).
كلّ الشّكر لمنظّمي هذا اللقاء على سعيهم الحميد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.