كيف نوفي شهر رمضان حقّه..؟!

العلامة السيد علي فضل الله

بقلم السيد علي فضل الله – جريدة اللواء
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى والفرقان…}.
اليوم نحطّ رحالنا على باب شهر الله، شهر رمضان المبارك، شهر التّوبة والمغفرة. وشهر رمضان لطالما كان ولا يزال يمثّل المدرسة والورشة والمحطّة في حياة المسلمين في كلّ بقاع الأرض، ومنذ بزوغ فجر الرّسالة.
وهو يأتي هذا العام في ظروف صعبة حيث يواجه العالم وباء كورونا والذي نريده أن يكون حافزاً للاقتراب من الله أكثر في هذا الشهر الذي فتح الله لنا فيه أبواب رحمته، وبالـتأكيد فإن الله لا يكلّف نفساً إلا وسعها، لذا إذا شعر الإنسان ضعفاً بجسده وقدّر الأطباء أن وضعه الصحي ضعيف المناعة ولا قدره له على مواجهة الفيروس فإنه يجوز له الإفطار.
ماذا نريد من شهر رمضان؟
والسّؤال الّذي يُطرح عادةً: ما المطلوب منّا في هذا الشّهر؟ كيف نوفيه حقّه؟ أيكفي أن نصوم ونصلّي ونحيي لياليه؟ أمّا السؤال الأدقّ الذي يجب أن نسأله فهو: ماذا نريد نحن من شهر رمضان؟ وهل دين الإسلام بحاجةٍ إلى صومنا وصلاتنا؟
بالطبع ليس الدين بحاجة لأن نقدِّم له خدمات، إنما الدين هو من يقدّم لنا الخدمات، والبركات، ويقدّم ما يفيد الإنسان في حياة كريمة، وفوقها جنّات يوم القيامة.
لذا فإن شهر رمضان فرصة وعلينا استغلالها، ليتفرّغ كل فرد لنفسه، فيرى ما لها وما عليها من خلال جردة حساب يقوم بها أمام الله، أن يضع الإنسان ما له وما عليه من ناحية الإيمان والأخلاق والمزايا والعيوب ونقاط الضَّعف في سعي منه لإصلاح ذاته وسد ثغراتها.
في موسم الرّحمة والعروض الكثيرة والوافرة من كرم الله وفضله، ليكن جهدنا الأكبر التخلّق بأخلاق الإسلام وأخلاق الله، فـ «الإسلام وحسن الخلق صنوان».
إنّ حسن الخلق لم يكن أبداً على هامش الدّين، بل كان عمقه، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم) عندما عنون رسالته، لم يقل إنما بُعثت لأتمم الصّلاة والصّيام والحجّ، بل قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». والعبادات هي منصّة للارتقاء في سلّم الأخلاق.
لنستفد من الفرصة، ولندرس في ثنايا أنفسنا مدى منسوب الأخلاق فيها، وكيف نصلح ما فسد، وكيف نُدعّم ما حسن ونقوّيه بإن نضع عيونا أمامنا {بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، وعليه أن يواجه نفسه قبل أن يُواجَه بهذه العيوب والمشاكل أمام الأشهاد: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ * وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}.
جردة حساب مع الذّات
نحن بحاجة إلى مثل هذه العودة الصّادقة لأنفسنا إلى جردة الحساب معها، والحلّ أن تحوّل برنامجك إلى خطوات عمليّة بعد أن تعد الله بالوفاء بعهودك.
مثلاً، من يعرف أنّ لديه سهولة التورّط بالكذب في كلامه ووعوده مع النّاس أوفي تجارته ومعاملاته، فليقرّر أن يحذر ويمسك لسانه كلّما جرّه ليكذب، ويتذكّر أنّه وعد الله، وأنّ الله سيعطيه فرصةً إذا التزم.
ومن كان يغتاب ثم يندم، ويعرف أنّ فيه نقطة ضعف عند تقييم النّاس، فيغتابهم بما لا يرضيهم، فالنّدم لا يكفي.. وليكن برنامجه في هذا الشّهر: أعدك يا ربّ أن أرقى إلى مستوى أخلاقك وأضبط لساني عن التفوّه باستغابة، وأن أضبط سمعي، ولا أحضر مجالس من كانوا يتسلّون بهتك أعراض النَّاس ونبش عيوبهم، ويجرّونني إليها.
أمّا من يعرف أنّه سريع الغضب، فليقرّر أن يتّخذ لنفسه سياسة جديدة: برودة الأعصاب أمام أيّ استفزاز، والعدّ للعشرة، والقول لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
ومن كان متسرّعاً متعصّباً، ويكتشف ذلك بعد فوات الأوان، فليقرّر وبدءاً من شهر رمضان، أن يكون تعصّبه للحقّ؛ أن يقف ليسأل نفسه قبل التفوّه بأيّ موقف أو رأي: مهلاً، لماذا أنا مع هذا أو مع ذاك؟ وهل لربي في ذلك رضا؟
ومن يشعر بنفسه القسوة والحدّة، فليتدرّب على مراقبة النفس وكبح جماحها. ومن كان لا يستطيع ضبط لسانه عن التفوّه بالبذاءة، ويندم عليها، فليتدرّب على الصمت واختيار العبارات بهدوء، ثم يكون طيّب الكلام. وقد يكون الإنسان نمّاماً أو فتّاناً عن قصد أو غير قصد، أو سيئ الظنّ بالنّاس، والدّواء أن يدرّب نفسه يوميّاً وفي كلّ موقف، كيف يكون حسن الظنّ، ويطرد وساوس الشّيطان الخنّاس.
أمّا الحسود، فلا دواء لحسده غير ردع النّفس ولجمها، وتعوّد القناعة والرّضا بعطاء الله.
واللائحة تطول، وكلّ إنسان خبير بنفسه.
شهر التدرّب
إنّ شهر الصّوم – فرصة حقيقيّة للتّدرّب، وقد يحتاج الصّائم إلى أن يعدّ جدولاً أو دفتراً يسجّل فيه ما ينبغي عمله، ويعود إليه كلّ يوم، تماماً كما في ورش العمل والتّدريبات، ليدوّن ما حصل معه، مثل هذه الملاحظات: اليوم أنا كظمت غيظي.. اليوم نجحت.. لم أنجرّ للمسايرة على حساب الحقّ، اليوم أنا تعرّضت لاستفزاز في العمل، ولكن الحمد للّه، كان ردّ فعلي سليماً هادئاً…
إنّ من يجبر نفسه على ترك الطّعام والشّراب، هو قادر على أن ينفّذ مثل هذا البرنامج، وبذلك يصحّح مسار حياته، يسقط منها الشّوائب، يهذّبها، يقوّمها، يجبرها على أن تولد من جديد، فقد ورد في الحديث: «الشقيّ الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم». وهنا يمكن أن نلحق بركب الصّائمين، ونكون من عباد الرّحمن من المؤمنين الصّادقين {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}.

المصدر: جريدة اللواء