معرفة النفس

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}.. صدق الله العظيم..

 

إن أخطر ما يواجه الإنسان في الحياة تحدي الشيطان له.. هذا الشيطان الذي لم يخف عداءه للإنسان وحقده عليه منذ أن وجد الإنسان. وجلّ هدفه هو أن يكرر مع أبناء آدم ما قام به مع أبيهم آدم وأمهم حواء عندما سعى لإغوائهما وإخراجهما من الجنة.. وإلى هذا أشار الله بقوله: { يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}..

 

ولذلك دعانا الله إلى أن نتعامل مع الشيطان من موقع أنه عدو بل أعدى الأعداء.. فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.. وقال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

وقد سئل الإمام الكاظم عن أوجب الأعداء مجاهدة: قال(ع): "أقربهم إليك وأعداهم لك… ومن يحرض أعداءك عليك.. وهو إبليس".

 

وقد كان من رحمة الله بعباده أن بين لهم مصير هذا الشيطان عنده وأنه مطرود من رحمة الله وأن عليه اللعنة إلى يوم الدين حتى لا يظنوا به في وقت من الأوقات أنه تاب وتاب الله عليه وأن ما يدعو إليه خير.. فهو لن يأتيهم إلا ليفتننهم أو يضلهم أو يهلكهم.

 

وحتى لا يكبر أمر الشيطان في داخلنا فنرى أنفسنا ضعفاء ونحيل تقصيرنا واساءاتنا إلى وساوس الشيطان.. ونضع اللوم في ذلك على الله الذي مدَّ في حياته إلى الوقت المعلوم وعلى إغوائنا وإضلالنا.. بين الله سبحانه وتعالى أن سلطة الشيطان ليست كما تتصورون فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}..

 

وفي آية أخرى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}.. فالشيطان ووساوسه وأحابيله لا تلغي إرادة الإنسان.. فالإنسان قادر على أن يقيِّد الشيطان وأن يعطل خططه ومشاريعه.. وقد تكفل الله بمد يد العون للإنسان إن هو استعان به على تدخلات الشيطان في حياته.. وبين له الوسيلة لذلك.. قال سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}.

 

ولذلك كانت وستبقى المشكلة هي في الإنسان، الإنسان الذي يعلن الولاء له والانضواء تحت سلطته، والخضوع لأمانيه وخدعه وغروره وتهويلاته.. ولذلك قال سبحانه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.. فيما لا سلطان له على الذين لم يسمحوا له النفاذ إلى ساحتهم وطرده منها بعد أن وثقوا بربهم واستندوا إليه وتوكلوا عليه.

 

ولذلك قال الله سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.. وقال سبحانه في آية أخرى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}.. وحتى إنه هو أعلن {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}.

 

مع ذلك فإن سعي الشيطان ودأبه أن نكون طيعين له فإن لم يستطع أن يجعلنا في جنده والعاملين له فعلى الأقل أن نكون من أتباعه، ولذلك هو يترصدنا ويتابعنا في كل شيء.. يتابعنا في نياتنا ودوافعنا، في ما نرغب ونشتهي، وفيما نكره ونبغض، يتابع انفعالاتنا وآمالنا وطموحاتنا وآلامنا، ويترصدنا عند أي خلاف.. هو يرقبنا في مواطن الضعف والانكسار..

 

ويتعقبنا في الشدائد والمحن وعند الفقر والحاجة أو البطر أو الغنى ليأخذ بنا إلى حيث يريد.. هو ينتظر غفلتنا عن أنفسنا ليوقعنا في حبائله ومصيدته وشباكه.. فنحن دائماً في موضع امتحان وبلاء معه.. وعلينا أن نتعامل معه من هذا الموقع..

فعلى هذا الأساس لا بد أن نكون يقظين في الساحة، وساحته هي هذه النفس التي بين جنبينا.. هذه النفس المتقلبة.. 

المتأرجحة.. المتغيرة.. التي تتأثر بما يحيط بها وبما يعمل عليه وبنوازع الشر والخير المودعة منها والتي أشار إليها الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.. بأن نحصنها منه.. فأول الطريق لذلك هو أن نعرف أنفسنا جيداً، أن نتابع ما يجري داخلها.. أن نتابع ما يطرأ عليها من تغييرات وتقلبات..

 

و الأحاديث هي التي حثتنا على ذلك.. "لا معرفة كمعرفة النفس".. "نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس".. وفي المقابل: "أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه".. وبدون هذه المعرفة سيتحول إلى شيء من الأشياء.. يسهل أخذه والعبث به وقد يتحول إلى أن يصبح عصا يُضرب بها المظلومون ووسيلة هدم للحق والخير.

 

ومع الأسف أغلب الناس لا يعرفون أنفسهم على حقيقتها إلا من رحم الله.. قد يرون أنفسهم مؤمنين ولكنهم لو نفذوا إلى حقيقة أنفسهم لما وجدوا الإيمان هو ما يحكم حياتهم.. قد يرون أنفسهم أحراراً.. ولكنهم في الواقع هم ليسوا أحراراً.. هم عبيد.. هم خشبة في تيار الآخرين الذين يمسكون بزمام أمرهم.. أو خشبة في تيار شهواتهم ومصالحهم أو أسرى أطرهم الضيقة أو الإعلام أو الجو الضاغط الذي تفرضه مواقع التواصل الاجتماعي عليهم.

 

بعض الناس يعتقدون أنهم يعملون لله ولرسوله وللأئمة(ع) أو من أجل الناس ولكن لو كشفوا حقيقة أنفسهم لوجدوا أنهم يعملون لمصالحهم أو ليقال عنهم أنهم يعملون.. ولذلك يتركون هذا العمل عندما لا يكون هناك فائدة لهم.. ودائماً نذكر قصة بهلول الذي كان يصفه الناس بأنه مجنون لكنه أعقل العقلاء.. بهلول هذا كان يحضر افتتاح مسجد وسمع خلاله الذين بنوا المسجد  في خطابهم أن بناءهم للمسجد كان لله وأنهم لم يقصدوا بذلك إلا وجهه..

 

هنا رأى بهلول أن يختبر صدق نواياهم، في الليل رفع على أحد جدران المسجد لافتة مكتوب عليها "هذا مسجد بهلول".. فقامت القيامة عليه ممن بنوا المسجد، كيف يكتب هذا وهم الذين بذلوا وأعطوا، فقال لهم: بالأمس كنتم تتحدثون أن بناءكم للمسجد كان خالصاً لله والله عالم بنيتكم.. وقد سجل لكم ثواب عملكم فما ضركم أن أكتب هذا مسجد بهلول بعد أن أخذتم من الله ثوابه.. فلماذا الانزعاج.. لكن حقيقة الأمر أنكم كيف تريدون أنفسكم بذلك.. فأعيدوا النظر بنياتكم.. وهذا درس لنا أن ندرس نوايانا جيداً في كل صلاة، في كل صيام، في كل بذل خير، في كل جهاد.. أن نعي حقيقة أهدافنا..

 

وفي الموقع المقابل ترى البعض يكرهون إنساناً أو جهة أو يتكلمون على هذا أو ذاك.. وهم في الحقيقة لا يكرهون هذا أو ذاك ولا يقتنعون بما يقولون ولكن حساباتهم الخاصة هي التي دفعتهم إلى أن يقولوا أو يتخذوا موقفاً لأنهم جبناء وخائفون من الوقوف في مواجهة المنطق السائد والجو العام..

 

إننا أحوج ما نكون إلى وقفات مع أنفسنا.. أن نرصد بدقة نقاط ضعفها وقوتها وانحرافها واستقامتها.. أن نراها بمرآة حقيقية.. لا أكبر ولا أصغر..

 

إبليس أيها الأحبة، يكره أن يصل الإنسان إلى هذه المعرفة.. إبليس لا يحب أن يخلد الإنسان إلى الهدوء والسكون، هو يحب الجو الصاخب ولذلك تراه يدفعك إلى ما يلهيك عن واقعك وإلى ضجيج الحياة من حولك وما حولك..

 

وبعد ذلك لا بد من بعد أن تعرف نفسك أن تحاسبها، وإلى هذا دعا الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}..

 

وقد ورد في الحديث: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر".

حتى ورد في الحديث: "ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم: فإن عمل حسناً استزاد الله منها، وإن عمل سيئاً استغفر الله وتاب منها".. فلا يكون مسلماً أو مؤمناً من لم يفعل ذلك.. وكيف يكون مسلماً ومؤمناً وهو غريب عن نفسه.. ومتى عرفنا أنفسنا وحاسبناها لا بد أن نجاهدها أن نعاندها.. حتى لا تؤدي بنا في مهاوي الرذيلة والانحراف وفي النار.. وقد ورد في الأحاديث: "من عرف نفسه جاهدها".. "مَن حاسب نفسه وقف على عيوبه، وأحاط بذنوبه، واستقال الذنوب، وأصلح العيوب"..

 

إن من أصعب الأمور أن يواجه الإنسان نفسه، أن يقول لنفسه أنت كاذبة في محبتك لله في محبتك لرسول الله، في محبتك للأئمة(ع).. في صحة دوافعك.. في طهارة نياتك.. إنك تدعين إنك تحبين هذا الشخص وأنت لا تحبينه.. أنت تحبين نفسك… أنت تستعملينه وسيلة وجسراً لمصالحك.. أنت كاذبة في كلماتك.. أنت لا تريدين الإصلاح في نقدك بل تريدين أن تسجلي نقاطاً عليه لحسابات قديمة أو جديدة.. أو لأنك تريدين أن تكوني مع التيار.. أو لأنك تحسدين أو تبغضين.

 

لكن الواعين هم من يفعل ذلك.. هم الذين يسهرون على أنفسهم ويتابعونها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.. واعتبر رسول الله(ص): "إن جهاد النفس وهو المسمى بالجهاد الأكبر".. وإن "جهاد النفس مهر الجنة".. فلنتوجه إلى الله سبحانه ليعيننا على أنفسنا: "اللهم أعنا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم يا أرحم الراحمين"..

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا الله به بعد معركة حنين؛ هذه المعركة الَّتي مرَّت علينا ذكراها في العاشر من هذا الشهر؛ شهر شوال، عندما قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.

 

ومعركة حنين، كما تعرفون أيها الأحبَّة، حصلت في السنة الثامنة للهجرة، بعد الانتصار الَّذي حققه المسلمون في فتح مكّة، بعد أن تحركت قبيلتا هوازن وثقيف المشركتان لمواجهتهم. يومها، خرج المسلمون بجيش كبير، ولكنّهم أُعجبوا بكثرتهم وعدّتهم وعتادهم، وثقتهم بالجيش إلى حدِّ الغرور والاستهانة، وهو ما أدّى إلى انكسار الجيش وهروب الكثير من المسلمين، بحيث لم يبق منهم إلا القلة مع رسول الله (ص).

 

إذاً، وصيَّة الله سبحانه وتعالى لنا هي عدم الغرور، فالنَّصر لا يأتي دائماً من خلال الكثرة والعدّة والعتاد، كما الهزيمة، ولا يأتي دائماً من خلال القلة.. بل يأتي من الله سبحانه ومن الثّقة به، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.

 

ولذلك، من أراد تحقيق النصر، فعليه أن يرتّب أمره مع الله، وأن يقوي علاقته به ويعزّزها.. وأن يكون كما يريد الله، فالله لا يقبل المغرورين والمتكبرين، بل المتواضعين والرحماء. وإذا كان هناك نقص في العدة والعتاد، فالله يرتّب ظروفه، كما رتبها في بدر، وكما رتبها بعد ذلك في حنين مع الثابتين: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}. لذلك، نحن نخاف جداً عندما تبتعد الأمة عن الله، ويصيبها الغرور والتكبر، وتغيب عنها الرحمة والتواضع، وهذا ما نحتاج أن نؤكّده ونواجه به التحديات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي لا يبدو أنَّ منطق السجالات والاصطفافات فيه بين قواه ومواقعه السياسيّة سيتوقَّف، وهو المشهد الَّذي يتكرَّر عند كلّ منعطف، فلا يزال البلد محكوماً بهذا المنطق، الذي ينعكس في التصريحات والتغريدات، ويتجلَّى انقساماً داخل المؤسَّسات، فتكون النَّتيجة عدم صدور قرارات، بذريعة الحرص على استقرار البلد. وفي ضوء ذلك، نسأل: أيُّ بلد سيكون هذا البلد؟! إنّ هذا الأمر ينبئ عن الحقيقة الّتي لا بدّ من أن نعترف بها، وهي أننا لسنا في وطن نحرص عليه جميعاً، أو في مركب واحد نخشى عليه من الغرق.

 

وهذا ما نجده في أسلوب التعامل مع تهديدات العدو الصهيوني، فنرى أن هناك من يتعامل معها بوحي الحساسيات الطائفية والمذهبية أو الحرتقات الداخلية، بعيداً عن مصلحة الوطن، وهذا ما نلمسه أيضاً في القضية الحسّاسة التي تتعلق بالنزوح السوري، والمخاطر التي باتت تنتج منه، من خلال تغلغل الإرهاب، سواء داخل المخيمات أو خارجها، وهو ما تؤكّده التوقيفات التي يقوم بها الجيش والقوى الأمنيَّة، ومن خلال انعكاسه السّلبيّ على الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ وعلى الاستقرار الداخليّ.. حيث كنا ننتظر من كلّ القوى السياسيّة أن تعالج قضيّة النزوح بوحي المصلحة اللبنانية أو مصلحة النازحين السوريين.

 

وقد لاحظنا كيف بدا الاصطفاف الحادّ واضحاً داخل مجلس الوزراء، الَّذي أعادنا إلى المفردات السّجاليّة الّتي كنا قد اعتقدنا أننا لن نعود إليها.. وأدّى إلى عدم صدور أيّ قرار فيما يتعلَّق بأسلوب معالجة هذه القضية، رغم كونها قضية ملحّة، بعد أن اكتوى الجميع، ومن بينهم النازحون السوريون، بنارها. ويكفي في ذلك الضحايا الَّذين سقطوا في الأيام السّابقة بفعل الحرائق الّتي حصلت في المخيَّمات.

 

إننا ندعو إلى الحذر من حدوث أيّ توتر في العلاقة بين اللبنانيين والسوريين، لأن مخاطر ذلك ستكون كبيرة على حاضر هذه العلاقة ومستقبلها، وخصوصاً أنّ الإرهاب يستفيد من كلّ التوترات. والمطلوب أن تكون هناك أفضل العلاقات بين الشعبين، كما بين الدولتين.. وأمام ذلك، نرى أن التعامل مع هذا الملف ينبغي أن يتم بروح المصلحة الوطنية، بعيداً عن كل التعقيدات والمصالح والتحالفات والصراعات الدائرة في المنطقة، والتي تستثمر، مع الأسف، في هذه القضية.

ونرى أيضاً أن من مصلحة الجميع إعادة النازحين إلى المناطق السورية الآمنة الّتي تحقّق الاستقرار فيها. ومن الطبيعي أن يتم التفاوض مع الدولة السورية للعودة إلى هذه المناطق التي تسيطر قواتها عليها، لأن التعامل ينبغي أن يكون مع الواقع الحالي، من دون أي حساسيات.

 

ونبقى في لبنان، لنعيد التأكيد على ضرورة التعامل مع القضايا الاجتماعية ببعدها الإنساني، بدلاً من التعامل معها ببعدها السياسي، وفي ضوء تضارب المصالح السياسية أو الأولويات لدى المواقع فيها، حيث ينبغي أن تكون الأولوية هي إنسان هذا البلد، وهذا ما ندعو إليه في التعامل مع سلسلة الرتب والرواتب أو أية قضية أخرى تتعلق بمصالح المواطنين، كقضية الكهرباء.

ونحن نرى أنَّ التّعامل من منطلق الموقع الإنسانيّ، سيساهم في التعجيل بإيجاد حلٍّ لتمويل هذه السّلسلة، أو الخروج من التجاذبات الحاصلة في ملفّ الكهرباء أيضاً، ولا نعتقد أن لا حلّ لهذه المسألة.

 

وليس بعيداً من ذلك، وحفظاً لدور الجيش ومعنوياته في هذه المرحلة الصَّعبة، ندعو إلى طيِّ صفحة التشكيك بدوره في معالجته لمشكلة الإرهاب من التداول الإعلامي، وإبقاء القضيَّة في إطارها القضائي، وإخضاعها للتحقيق الداخليّ، لأنَّنا نريد لصورة الجيش أن تكون صورة ناصعة ومثلى، بعيداً عن أي انفعالات وتوترات يفرضها الأمر الواقع، وهذا قدر الجيش في كلّ المراحل.

 

العراق

 

وإلى العراق، حيث لا بدّ من أن نشيد بالإنجاز الَّذي حقَّقه العراقيون في مواجهة الإرهاب في الموصل، والذي سيستكمل، إن شاء الله، وأن نقدّر عالياً التضحيات التي قُدمت في هذا المجال، ونحن نرى أنَّ هذا الإنجاز ما كان ليحصل لولا تضافر جهود العراقيين من كلّ الطوائف والمذاهب.

 

إنَّنا نأمل أن يكون الانتصار مقدمة لإخراج العراق من أتون الإرهاب والإرهابيين، الَّذين زرعوا القتل والرعب، وسفكوا الدماء، واستحلوا الأعراض.. وأن يكون مدخلاً لبناء عراق جديد قائم على المشاركة بين كلّ تنوعاته الطائفية والمذهبية وأعراقه.. فلا يكون هناك غبن لأحد، لأنَّ الغبن دائماً هو مشروع فتنة ومشروع تقسيم.

 

اطلاق النار في لهواء

وأخيراً وليس آخراً، لا بدَّ من التّذكير بالمسؤولية الشرعيّة والإنسانيّة، بعدم إطلاق النار في الهواء نتيجة أيّ سبب، سواء ما يتصل بنتائج الامتحانات أو غيرها، ونحن نضم صوتنا إلى أصوات الَّذين يدعون إلى محاسبة المجرمين بحقّ الناس ومقدّراتهم وحياتهم وأعصابهم.. وعدم إفساح المجال للتدخلات السياسية وغير السياسية، لأنّ أي تدخل سوف يحمّل صاحبه كل النتائج المترتّبة عليه.

 

Leave A Reply