من أخلاق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

 

نبّه القرآن الكريم إلى أثر فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، وقد اتَّصلت هذه الطَّاعة بأدب أن يكون المسلم شاهداً ومصلحاً ومسؤولاً ورقيباً تجاه الآخرين، فيبارك لهم الفضائل، ويحذِّرهم من الرّذائل، ولا يجوّز لهم أن يروا المنكر ويسكتوا عنه، لأنّ السّكوت عن الباطل هو رضاء به، إلا أن يكون الإنسان معذوراً في أداء هذه المسؤوليّة.

وما من شكّ في أنّ قيام المسلم برعاية الحقوق العامّة والأخلاق الحميدة، ستحفظ المجتمع من خطر انتقال الأمراض السلوكيّة بالعدوى، بصورةٍ يغدو فيها المنكر مألوفاً في جنوح ما نراه من تغييرٍ للقيم والمفاهيم، حين ينتهي أمرها إلى اعتبار المنكر معروفاً والمعروف منكراً.

وفي ذلك روي عن النبيّ(ص) قوله: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إن كان ظالماً، فكيف أنصره؟ قال: "تحجزه عن الظّلم، فإنّ ذلك نصره".

فما نراه اليوم من شيوع ظاهرة المجاهرة بالفسق والفساد، هو من آثار عدم التّناهي عن المنكر بجميع أشكاله. وفي بعض النصوص المفسّرة، فإنّ القرية الظّالمة هي القرية الّتي تستحلّ الحرام وتميل إلى الباطل، وتتجاوز حدود الله بالإثم والعدوان: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود:102].

والأمَّة الملعونة في القرآن هي تلك الّتي نقضت عهد الله وميثاقه، واستشرى فيها الظّلم والعدوان، كما في سلوك الّذين كفروا من بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[المائدة: 78-79].

وعن مناهج الإصلاح والتّغيير، يلفت القرآن الكريم إلى اعتماد الرّفق واللّين والحكمة والموعظة الحسنة: {ادْعُ إلى سبيلِ ربّك بالحكمَةِ والموعظَةِ الحسنة وجادِلهُم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلمُ بمَن ضلّ عن سبيله وهو أعلمُ بالمهتدين}[النّحل:125].

وقوله تعالى: {اذهَبا إلى فرعونَ إنّه طغَى فقُولا له قولاً ليِّناً لعلَّه يتذكَّرُ أو يخًشى}[طه: 43-44].

وقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفِروا كافَّةً فلوْلا نفَرَ من كلِّ فِرْقةٍ منهُم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدّين وليُنذِروا قومَهُم إذا رجَعوا إليهم لعلّهم يحذَرون}[التّوبة:122].

ويقول بعض أصحاب النبيّ(ص) إنّهم بايعوه على عدّة أمور، أحدها: "أن نقول الحقّ أينما كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم"، من دون أن يستتبع ذلك شيء من الإكراه أو السَّيطرة أو استخدام العنف {لا إكْراهَ في الدِّين}[البقرة: 256]، وقوله تعالى: {لسْتَ عليهِم بمصيطِر}[الغاشية: 22]، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}[النّور: 54].

وقد نجد في الفقه الإسلاميّ من يعتبر النّهي عن المنكر عدواناً واحتلالاً يستبيح عقيدة الأمّة في أرضها وكرامتها وحقوقها: "أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر، من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

وذلك أنَّ الإسلام يريد من أبنائه تكوين الرّأي العام الصّافي، ليكون بمثابة صوت العدالة وصوت الخير الّذي يقف في وجه كلّ شرّ وكلّ فساد مهما كان مصدره، ومن هنا ربطت آية الولاية فكرة الشهوديّة، عندما جعل الأمّة الإسلاميّة شاهداً على بقيّة الأمم، بفكر الرّقابة الاجتماعيّة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 71].

قال الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدّين": أفهمت هذه الآية؟ إنّ من هجر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خرج من المؤمنين، لذا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من أخصّ صفات الأمّة الإسلاميّة الّتي نعتها الله بأنّها خير أمّة أخرجت للنّاس، لاتّصافها بهذه الصّفات: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:110].

وكأنَّ شرط الإيمان أن تجانب أوزار المفسدين، فإذا شاع الفساد عمّ النّاس بلواه، وفي الحديث النبويّ: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيّروا ثم لا يغيّرون، إلا يوشك أن يعمّهم الله بعقاب"..

وليس من خطر على الدّولة والمجتمع أشدّ من شيوع ظواهر الفساد والمنكر بذريعة الاحتماء بحقّ الحريّة الشخصيّة، لأنّ مفهوم هذه الحريّة من منظور إسلامي ـ قرآني، يجب أن يكون تحت سقف الأخلاق والفضيلة والخير، فإذا تعدّت ذلك، كانت عدواناً على حقّ الآخرين في الأمن الأخلاقي والاجتماعي، وهذه من المهلكات لأمّةٍ لا تقوم على ضبط حدود الحريّة، فتستسلم لقوّة المنكر وسيطرته، في مشهد غالباً ما نراه في كثير من عواصمنا الإسلاميّة الّتي تجازي الظّالمين، فإذا سرق القويّ ترك، وإذا سرق الضّعيف أقيم عليه الحدّ…

من هنا، كانت أشدّ مراتب المنكر ضرراً على الأمّة ومستقبلها، ما يجري على أيدي الملوك والحكّام الفاسدين الّذين جعلوا من السّلطة أداةً لإشباع غرائزهم وشهواتهم، فأهلكوا الحرث والنّسل، والله لا يحبّ الفساد. {وإذا قيل لهُ اتَّقِ الله أخذَتْه العزّة بالإثْمِ فحسبُهُ جهنّم ولبئْسَ المِهاد} [البقرة:206].

Leave A Reply