أهميّةُ الدّعاءِ في مواجهةِ ابتلاءاتِ الحياة

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60]. صدق الله العظيم.

لقد أشار الله سبحانه وتعالى في هذه الآية إلى أنَّ الحياة الدنيا لن تكون دائماً على الصّورة التي نريدها ونحبّ أن تكون عليها، ففي الحياة مشقَّات وصعوبات، وقد نتعرَّض فيها لابتلاءات ونواجه فيها تحدّيات، وهو ما يؤكِّده الله في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]، و{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ…}[البقرة: 155]، وأيضاً: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}[البقرة: 214].

ولكنَّ الله سبحانه وتعالى، ومن رحمته بعباده، لم يرد لهم أن يواجهوا هذه البلاءات والمعاناة والصعوبات والتحدّيات وحدهم، بل فتح لهم الباب واسعاً للتَّواصل معه ومناجاته والتحدّث إليه، وهذا الباب مفتوح دائماً لا يغلَق أبداً، ومن خلاله يستطيعون أن يبثّوا إليه همومهم وشكاواهم، وأن يعبِّروا من خلاله عن طلباتهم وحاجاتهم، وهو الدّعاء.

ووعدهم إن هم دعوه أن يجيبهم، وإن نادوه أن يلبِّي نداءهم، وإن استغاثوا به أن يغيثهم، وهذا ما أشار إليه إلى رسوله (ص): {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}[البقرة: 186]، وقال عزَّ وجلَّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].

وقد سهَّل لهم الطريق لذلك، بأن لم يجعل وسيطاً بينه وبين عباده، ولم يجعل هناك قواعد وأصولاً للتّواصل معه، ولم يحدِّد له مكاناً أو زماناً، وأن بإمكانهم التواصل معه مباشرة.

أهميَّةُ الدُّعاء

وقد أشار القرآن الكريم والأحاديث الشَّريفة إلى أهميَّة الدعاء، وما الذي يؤدِّي إليه، فقال سبحانه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}[الفرقان: 77]، وفي الحديث عن رسول الله (ص): “الدّعاء مخُّ العبادة، ولا يهلك مع الدّعاء أحد”، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) في وصيَّته لولده الإمام الحسن (ع): “أعلم يا بنيّ، أنّ الذي بيده خزائن ملكوت الدّنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله فيعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب خزائنه”.

وورد في الحديث: “عليكم بالدّعاء، فإنَّ الدعاء لله، والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلَّا إمضاؤه، فإذا دعي الله عزَّ وجلَّ وسئل، صرف البلاء صرفة”.

وفي الحديث: “ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدّعاء قبل ورود البلاء”.

وقد ورد في الحديث: “من قرع باب الله سبحانه فتح له”.

وفي الحديث: “ما فتح الله عزَّ وجلَّ على أحدٍ باب مسألة فخزن عنه باب الإجابة”.

وفي الحديث: “المؤمنُ من دعائِه على ثلاثٍ: إمَّا أنْ يُدَّخرَ له، وإمَّا أنْ يُعجَّلَ له، وإمَّا أنْ يُدفعَ عنه بلاءٌ يريدُ أنْ يُصيبَه”.

دورُ الدّعاء وأثرُه

ولتأكيد هذا الدَّور الذي يؤدّيه الدعاء، أشار الله سبحانه إلى أممٍ وأفرادٍ ردَّ الله عنهم البلاء، عندما تضرّعوا إليه وتذلَّلوا له، فهو حدَّثنا عن قوم يونس (ع)، أنّه بعدما تركهم نبيّهم ليأسه من هدايتهم وغادرهم، حينها تيقَّنوا أنَّ العذاب سيصيبهم كما أصاب أقواماً سابقين بعدما بدأت بوارده، فخرجوا إلى الصّحراء كباراً وصغاراً يتضرَّعون إلى الله سبحانه حتى لا يصيبهم العذاب، فلمَّا رأى الله عزَّ وجلَ منهم صدق النيّة بالدّعاء والتوجّه إليه، منع عنهم العذاب ومتَّعهم إلى حين، وفي ذلك نزلت الآية: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ أَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا أَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس: 98]، أي أن قوم يونس نفعهم إيمانهم لما رأوا العذاب، فيما لم ينفع فرعون عندما قال: {قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}[يونس: 90]، فقال له الله عزَّ وجلَّ: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس: 91].

وأشار الله سبحانه إلى شفائه لنبيِّه أيّوب (ع)، بعدما ابتلي بالمرض العضال، وتركه لذلك أولاده وحتَّى زوجته، لما دعاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ…}[الأنبياء: 83 – 84].

وقد تحدَّث عن إخراجه ليونس (ع) من ظلمات بطن الحوت بعدما ابتلعه، عندما دعاه: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء: 87 – 88].

وتحدَّث عن استجابته لدعاء زكريَّا عندما دعاه إلى أن يهب له ولداً رغم كبر سنِّه، وأن امرأته كانت عاقراً، فقال في ذلك: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 89 – 90].

والدّعاء كان حاضراً من رسول الله (ص) ومن المسلمين في معركة بدر، يوم واجه المسلمون قريشاً في معركة غير متكافئة على صعيد العدد والعتاد والسّلاح.

وقد أشار الله سبحانه إلى أثر دعائهم، عندما قال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}[الأنفال: 9]، وكان النّصر المؤزَّر حليفهم…

وفي معركة الأحزاب، يوم تكالبت قوى الشِّرك على مهاجمة المدينة لاستئصال جذور الإيمان فيها، كان دعاؤهم: “يا صَريخَ الْمَكْرُوبينَ، يا مُجيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّينَ، اكشف غمَّنا وهمَّنا وكربنا، واكشف هول عدوِّنا”، فكان أن انتصر المسلمون آنذاك بسيف عليّ (ع)، وبالرّيح العاصف التي اقتلعت خيم المشركين وأقضَّت مضاجعهم.

سلاحُ المؤمنِ الفعَّالُ

لذلك، أيُّها الأحبَّة: فلنتوجَّه إلى الله سبحانه بقلوبنا وعقولنا، لنواجه ابتلاءات الحياة ومصاعبها وحوادثها وما يجري فيها، ولنستخدم هذا السّلاح الفعَّال المجرَّب، والَّذي هو سلاح الأنبياء، وهو سلاح كلِّ مؤمن.

فقد ورد في الحديث الشَّريف: “الدّعاء سلاح المؤمن”، “الدّعاء ترس المؤمن”، و“لا يهلك مع الدّعاء أحد”.

ولكن يبقى علينا مسؤوليَّة، أن نحقّق شروط الدعاء في أنفسنا؛ بأن ندعو الله بقلوبنا لا بألسنتنا فقط، فالله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل ساه، وأن ندعوه ونحن على ثقة به، وأنّه القادر على تغيير أحوالنا وتحقيق طلباتنا، وقد أدَّينا حقوقه وما أوجبه علينا من حقوق.

وأن تدعوه بلسان غير بذيء، وبقلب نقيّ، فلا يقبل دعاء من كان لسانه بذيئاً وسليطاً، ولا من كان قلبه قاسياً، فالله لا يستجيب دعاء كان قلبه قاسياً لا يرقّ، وأن ندعو الله ونقبل النتيجة، لإيماننا بأنَّه أعلم بما يصلحنا ولا يأتي منه إلَّا الخير، وقد ورد في الحديث القدسيّ: “يا بنَ آدَمَ، أطِعْني فيما أمَرتُكَ، ولا تُعَلِّمْني ما يُصلِحُكَ”.

وقد ورد في الحديث: “لا يزال المؤمن بخير ورخاء ورحمة من الله ما لم يستعجل فيقنط فيترك الدّعاء، ويقول: قد دعوت منذ كذا وكذا ولا أرى الإجابة”.

ولكنَّ الدعاء لم يرده الله عزَّ وجلَّ للكسالى والجالسين في بيوتهم ينتظرون رزقاً ونصراً وتسديداً وتأييداً من الله عزَّ وجلَّ، بل هو للَّذين يقومون بمسؤوليَّتهم ولا يقصِّرون فيها، فالله لا يقبل دعاء البطّالين المقصِّرين الذي يريدون من الله أن يحقِّق لهم ما يريدون من دون أن يقوموا بما عليهم.

ولذا ورد في الحديث: “أربعة لا يستجاب لهم دعاء: رجل جالس في بيته يقول: يا ربّ ارزقني، فيقول الله له: ألم آمرك بالطَّلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك؟! ورجل كان له مال فأفسده فيقول: يا ربّ ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح؟!… ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقول: ألم آمرك بالشّهادة؟!”.

أيّها الأحبّة: إنّنا نعيش في مرحلة هي من أصعب المراحل، حيث الأرض تهتزّ تحت أقدامنا، إن على صعيد ما نعانيه في الداخل أو مما نواجهه من الخارج، المطلوب فيها أن لا نيأس، أن لا نجزع، أن لا ننهزم، فالمؤمن لا يمكن أن ييأس أو يجزع أو يهزم، بعد أن فتح له الله باب الدّعاء واسعاً، وعلينا أن نطرقه بكلِّ ثقة وإيمان، هو بأيدينا، فلنتوجَّه إليه، ولندعُ من كلِّ قلوبنا بعدما نقوم بدورنا، والله عند ظنِّ عبده به.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى رسول الله (ص) أصحابه، حين قال لهم: “تَقَبَّلوا لي بسِتٍّ أتَقَبّلْ لَكُم بالجَنَّةِ: إذا حَدَّثْتُم فلا تَكْذِبوا، وإذا وَعدْتُم فلا تُخْلِفوا، وإذا ائتُمِنْتُم فلا تَخونوا، وغُضّوا أبْصارَكُم، واحْفَظوا فُروجَكُم، وكُفُّوا أيديَكُم وألسِنَتَكُم”.

أيُّها الأحبَّة: لقد رسم لنا رسول الله (ص) الطريق إلى الجنَّة، فلنبادر إلى سلوكه، ويكفينا للوصول إليها أن نكون الصَّادقين الأمناء الذين يفون بوعدهم، ويغضّون أبصارهم، ويحفظون فروجهم، ولا يظلمون أحداً بأيديهم وألسنتهم.

ومتى فعلنا ذلك، سنكون أكثر وعياً ومسؤوليَّة واستقامة في هذه الحياة، وأكثر قدرة على مواجهة التحدّيات…

العدوانُ على غزّة

والبداية من قطاع غزَّة، والذي تزداد معاناته يوماً بعد يوم في ظلِّ الحصار المطبق عليه، والَّذي يخشى، إن استمرَّ، أن يؤدِّي إلى كارثة إنسانيَّة تودي بأكثر من مليوني نسمة يعيشون فيه، فيما يستمرُّ العدوُّ الصّهيوني بالتَّدمير الممنهج للقطاع، وبممارساته العدوانيَّة ومجازره بحقِّ المدنيّين، وجلّهم من الشيوخ والنساء والأطفال، وهم في بيوتهم، وبات يلاحقهم حتى إلى الأماكن التي يلجأون إليها، والتي لم تكن آخرها المجزرة التي أصابت المستشفى المعمداني والكنيسة الأرثوذكسيَّة، وأودت بمئات الضَّحايا والإصابات، بل أعقبتها مجازر، وقد أصبح واضحاً أنَّ الهدف الذي يريده العدوّ من وراء ذلك هو إفراغ القطاع من أهله، إمَّا قتلاً أو تهجيراً. ومع الأسف، يجري كلّ ذلك على مرأى العالم ومسمع منه، ومن دون أن يحرِّك هذا العالم ساكناً من أجل إيقاف نزيف الدَّم وهذا التدمير، ويكتفي لتبرئة ذمَّته ببيانات الإدانة الَّتي لا تسمن ولا تغني من جوع هذا الشَّعب ومعاناته.

شركاءُ العدوِّ في جرائمِهِ

ومن المؤسف والمحزن أن نجد في هذا العالم من لا يزال ينظر إلى ما يجري بعيني هذا الكيان، من دون أن يبدي حتى تعاطفاً مع أطفال الشَّعب الفلسطيني ونسائه وشيوخه، لذا نجده يتألم ويحزن لما حلَّ بهذا العدوّ وبأسراه ولما أصابه، كأنّ هذا العدوَّ وحده هو من يتألم ويعاني وله أسرى، فيما الشَّعب الفلسطيني يعيش في رخاء وأمان، ولم يتعرَّض للقصف أو  المجازر، ولم تحتلّ أرضه، وأسراه لا يملأون سجون العدوّ! ولذلك، نرى قيادات الدول الغربيَّة يفدون إليه زرافات ووحداناً، لتأييده وتقديم كلِّ الحماية له والدَّعم، إن على الصّعيد العسكري والاقتصادي، أو على صعيد التغطية السياسيَّة التي تكفل عدم إدانته واستمراره بتدمير بنيته التحتيَّة.

ولذلك نجدِّد القول لكلّ هؤلاء الداعمين لهذا العدوّ، أنتم شركاء له في جرائمه وكلّ ما يعانيه أهل غزة من آلام وجراحات ومعاناة وحصار، وهم لن يخدعوا بفتات مساعداتكم الَّتي تريدون بها أن تغسلوا عار وقوفكم مع هذا العدوّ، هذا الشّعب يحتاج إلى أن تعملوا على وقف هذه المجازر البشريَّة على قطاع غزَّة، وأن ترفعوا ثقل احتلال هذا العدوّ الَّذي يجثم على صدره ويمنعه من مقوّمات الحياة، هو يريد الحياة الحرة العزيزة الكريمة له ولأولاده، وما دام يفقد مثل هذه الحياة، فإنَّه من الطبيعي أن يغضب ويثأر لكرامته وينتفض بكلِّ الوسائل لنيل حقوقه…

إنَّنا لن نأمل كثيراً من دول الغرب الكبرى الَّتي التزمت هذا الكيان العدواني وكان لها دور في وجوده، وكما عبَّر عن ذلك الرئيس الأميركي الَّذي أتى مهرولاً إلى إسرائيل لاحتضان الكيان قائلاً إن إسرائيل لو لم تكن موجودة فلا بدَّ أن توجد، في تماهٍ مطلق مع هذا الكيان، ودعم غير محدود له، ومنع أيّ قوّة تنشأ وتسعى لتتكافأ معه وتحمي نفسها منه، وهذه الدّول نراها إن تحدَّثت عن حقوق الإنسان، فهي تتحدَّث من زاوية إنسان هذا الكيان لا من زاوية إنساننا…

ضعفُ الموقفِ العربيّ

لقد كنَّا نأمل وننتظر من الدول العربيَّة والإسلاميَّة التي اجتمعت أخيراً في جدَّة، أن يكون موقفها قويّاً بحجم معاناة الشّعب الفلسطيني والتَّهديد الذي يتعرَّض له، وبحجم ما تهفو إليه شعوبها، وأن تنطلق في مواقفها عملاً بالأخوّة الإسلاميّة التي تدعوها إلى أن تكون مساندةً لمن هم إخوة لهم، وأن يكونوا كما دعاهم رسول الله (ص): “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشدّ بعضه بعضاً”، أن لا يقتصر موقفها عند حدود كلمات التّضامن العاطفيَّة مع الشعب الفلسطيني، وشجب ما يجري داخل فلسطين من مجازر، ورفض التهجير للشعب الفلسطيني، بل اتخاذ المواقف الجادَّة والكفيلة بأن تردع هذا العدوّ أو تردع من يقدمون له كلّ الدعم، ونحن نرى أنها قادرة على ذلك إن توحَّدت جهودها، وتكتَّلت قواها، واستخدمت ما لديها من قدرات وإمكانات، وندعوها أن تأخذ في الاعتبار مخاطر أن يصل هذا الكيان إلى أهدافه، ويحقِّق مشروعه لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة أو إضعافها، وحصرها بالحدود التي يرسمها لها، لأنَّ هذه الدول وشعوبها لن تكون بمنأى عن استهداف العدوّ إن اقتضت مصالحه وتوافرت الظّروف لذلك، وأن يأخذوا بالمثل الَّذي يقول: “أُكِلت يوم أُكِل الثَّور الأبيض”.

الرّهانُ على المقاومةِ والأحرار

إنَّنا أمام ما يجري، سيبقى رهاننا على مقاومة الشَّعب الفلسطيني في غزَّة والضفَّة الغربيَّة، وعلى صموده وثباته في أرضه، رغم الجراح والآلام والتَّهاويل التي تمارس عليه، وهي لن تفتّ في عضده، ولن تجعله يتراجع عن خياره بأن يكون حرّاً عزيزاً كريماً، مهما غلت الأثمان وبلغت التضحيات.

وفي الوقت نفسه، نجدِّد دعوتنا للشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة وكلّ أحرار العالم، أن يتابعوا حراكهم للتَّأكيد للعدوّ بأنَّ هذا الشعب لن يبقى وحيداً ولا ينبغي أن يستفرد به، وأنَّ هناك من يقف معه، وليضغطوا من خلال حراكهم على حكوماتهم.

وهنا، لا بدَّ من أن نحيّي كلَّ الذين عبَّروا بأصواتهم وأقلامهم ومواقفهم السياسيَّة وتصريحاتهم عن رفض ممارسات هذا الكيان والمجازر الَّتي حصلت، وتوضيحهم الصورة التي يراد لها أن تشوَّه أو أن يعتَّم عليها.

التَّضامنُ اللّبنانيُّ مع غزَّة

ونعود إلى لبنان الَّذي يثبت كلَّ يوم تضامنه مع الشعب الفلسطيني بكلِّ الوسائل المتاحة لديه، لإيمانه بقضيَّته، ولأنه يواجه عدواً مشتركاً كان ولا يزال مستهدفاً منه.

وهنا، لا بدَّ من أن ننوِّه بالحكمة التي تتحلَّى بها المقاومة ومعها القيادات اللبنانيَّة، في مقاربة تهديدات العدوّ واستهدافاته وفي التَّعامل معها وعدم الرَّضوخ له، وندعو كلَّ اللبنانيين إلى التوحّد في هذه المرحلة، والكفّ عن كلِّ ما يخلّ بوحدتهم الوطنيَّة، وعدم جعل العدوّ يستفيد من أيِّ تناقض داخليّ في الموقف منه، وأن يعي الجميع أنَّ هذا العدوَّ لن يألو جهداً في إضعاف هذا البلد الَّذي يراه نقيضاً لكيانه وندَّاً له، ويريد الثأر من كرامته بعد أن أذلَّه الشعب اللبناني، عندما أخرجه ذليلاً صاغراً من هذه الأرض.

فيما ندعو الحكومة اللبنانيَّة إلى بذل جهودها للعمل على معالجة أزمات البلد ومعاناة أبنائه، والتخفيف من الأعباء عليه، ودراسة كلِّ السبل التي تضمن قدرة البلد وإنسانه على مواجهة هذه المرحلة الصّعبة بكلِّ تداعياتها، وما بات يخشى من امتداداتها، إن في الداخل أو في المنطقة.