الإسراف والتّبذير ظاهرة يرفضها الإسلام

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. صدق الله العظيم.

 

لقد حذّرت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بني آدم من مغبّة الوقوع في الإسراف أو التبذير.

 

تداعيات الإسراف

والإسراف أو التّبذير يعني تجاوز الإنسان الحدّ المعقول في تعامله مع حاجاته ورغباته، وما يتوافر لديه من إمكانات وقدرات، أو في أداء الواجبات والمسؤوليّات. وقد بيّنت أنّ آثاره وتداعياته لا تقف عند حدود الأفراد والمجتمعات والأوطان، في حاضرهم ومستقبلهم في هذه الحياة، بل تمتدّ إلى موقف الإنسان بين يدي ربّه في الآخرة، وإلى علاقته به.

 

فقد اعتبر القرآن الكريم المبذّرين إخواناً للشياطين، عندما قال: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}. وقال: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

 

وقد ورد في الحديث: "إنَّ القصد أمر يحبّه الله عزّ وجلّ، وإنَّ السرف أمر يبغضه الله عزّ وجلّ، حتّى طرحُك النواةَ، فإنّها تصلح لشيء، وحتّى صبُّك فضلَ شرابك".

وفي الحديث: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، ألهمه الاقتصادَ وحسنَ التدبير، وجنّبه سوءَ التدبيرِ والإسرافَ".

 

وهذا كله يعود إلى الآثار والتداعيات الخطيرة التي قد يتركها الإسراف. ويكفي نظرة إلى الواقع من حولنا، حتى نرى تلك الآثار والتداعيات، فالإسراف يؤدّي إلى تبديد الطاقات والقدرات والإمكانات التي يمتلكها الأفراد والمجتمعات والأوطان، وإلى ضياعها، وهو يخرجهم عن حدّ التوازن الذي بنى الله سبحانه وتعالى على أساسه الكون  والحياة، وأراد للإنسان أن يلتزم به ولا يخرج عنه، عندما قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.

 

التّوازن هو المطلوب

فالمطلوب من الإنسان في حسابات الله أن لا يطغى، وأن لا يتجاوز الحدود، أن يتوازن في كلّ شيء؛ أن يتوازن في طعامه وشرابه ولباسه، في كلامه ووقته، وحتى في عباداته وفي أعمال الخير. وهو ـ سبحاته ـ عندما دعا إلى ذلك، لم يدع إليه من باب التمني، فالإنسان ليس حراً في أن يفرّط بصحته أو بماله أو بالإمكانات التي أودعها الله لديه، وبهذا جاءت الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة التي حرصت على الدخول في التفاصيل. وفي ذلك قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}.

 

فقد بيَّنت هذه الآية بكل وضوح، أنّ من حقّ كلّ إنسان أن يأكل ويشرب، وأن يحصل على حاجته من الطعام والشراب، ولكن ليس من حقه أن يتجاوز في ذلك، فيأكل أو يشرب ما يزيد عن حاجته إلى حدّ التخمة. فهذا فضلاً عن كونه حراماً، هو منبع الكثير من الأمراض. فهناك العديد من الأمراض المنتشرة بيننا، يعود السبب فيها إلى الزيادات الإضافية في الطعام التي تتكدَّس في الجسم، والتي تشكّل عبئاً عليه، وتتسبب في قلة النشاط والحركة والفعالية، والتي أشارت إليها الأحاديث: "من كثر أكله، قلّت صحته، وثقلت على نفسه مؤنته".

 

وفي الحديث: "لا تجتمع الفطنة مع البطنة". وفي الحديث: "حسبابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه".

 

وصفة وقائيّة

ولذا، اعتبرت الآية القرآنية التي استهللنا حديثنا بها وصفة وقائيّة، هي من أهمّ الوصفات التي تعتمد في الطبّ الوقائيّ. وقد أشار إلى ذلك حوارٌ جرى بين طبيب نصراني وأحد الأطباء المسلمين في أيام هارون الرّشيد، فقد سأل الطبيب النصراني: "ليس في كتابكم من علم الطبّ شيء. والعلم علمان، علم الأبدان، وعلم الأديان. فقال له: قد جمع الله الطبّ كلّه في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}. فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطبّ؟ فقال: قد جمع رسولنا(ص) الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: "المعدة بيت الدّاء، والحمية رأس الدواء"، و"أعط كلّ بدن ما عوّدته". فقال الطبيب النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً". وجالينوس هو واحدٌ من أعمدة الطبّ في اليونان.

 

المنع من الإسراف

وقد ورد المنع من الإسراف في اللّباس أيضاً، والذي عبّر عنه الحديث: "كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ"، فلا ينبغي أن يتجاوز الإنسان في اللّباس حدود الحاجة إليه، فاللّباس وضع لستر البدن وحمايته في الحرّ والبرد وأيّ ظروف طبيعيّة، وينبغي ألا يكون وسيلةً للتباهي أو التفاخر، أو أن يصبح هدفاً وغاية تشغل بال الإنسان وتأخذ الكثير من وقته، كما يحدث في واقعنا.

 

فمن صفة المتّقين، ما قاله الإمام عليّ(ع): "منطقهم الصّواب، وملبسهم الاقتصاد".

وهذا المنع من الإسراف ورد في القرآن، حيث قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}، وورد في صرف المال، حيث أشارت الأحاديث إلى أن يكون الإنفاق فيه بحدود الحاجة، فلا يجوز أكثر من ذلك، وحتى عند توافره وكثرته.

 

ففي الحديث: "أمسكمن المال بقدر ضرورتك، وقدِّم الفضل ليوم حاجتك". أي استفد من الفائض من مالك ليوم حاجتك إليه. فكم من أناس ندموا على مالٍ صرفوه في غير موضعه ولم يجدوه عندما احتاجوا إليه!

 

وقد اعتبر إنفاق المال وصرفه مسؤوليّة، كما الحصول عليه، وقد ورد في الحديث: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة، حتّى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه".

 

من مظاهر الإسراف

والإسراف يتجلّى في واقعنا أيضاً في المآدب الفارهة التي تفوق حاجة المدعوّين إليها، ما يجعل الكثير منها يرمى في النفايات ولا يستفاد منه. وهو يحصل أيضاً في عدم الضّبط في أسلوب استخدام الكهرباء والماء أو الهاتف ووسائل التواصل، وفي استعمال وسائل النّقل. ويتّسع الإسراف ليشمل الإسراف في الوقت، حيث ورد في الحديث: "احذروا ضياع الأعمار، ففائتها لا يعود". أو في الكلام، فقد ورد في الحديث: "الكلام كالدّواء، قليله نافع، وكثيره قاتل". والإسراف يرد في المدح والثّناء بالتفخيم، أو بمنح الألقاب، وما أكثر الذين لا يعدلون في المدح والثناء، في الوقت الذي يقول الله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}! ويمتدّ الإسراف ليشمل الواجبات، وحتى أعمال الخير.

 

وقد ورد في النهي عن الإسراف حتى في استعمال الماء للوضوء، أنّ رسول الله(ص) مرّ على رجل يسرف في ماء وضوئه، فقال له: "ما هذا السّرف؟". فقال: يا رسول الله، أفي الوضوء إسراف؟ قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار".

 

وقد ورد عن الإسراف في العبادة، أنه حين سمع أصحاب رسول الله(ص) نصائحه ومواعظه وحديثه عن العذاب والعقاب والحساب، قال أحدهم: أنا لن أتزوج، لأن الزواج يشغلني عن عبادة ربي، وقال آخر إنّه سيصوم الدهر كلّه ولا يفطر، وثالث أنه سيقوم النهار واللّيل كله… فخرج رسول الله(ص) حينها محذِّراً من هذا السلوك غير المتوازن في العبادة، وقال لهم: "إني لم أؤمر بذلك، إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً، فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللَّحم والدّسم وآتي النساء، فمن رغب عن سنَّتي فليس مني".

 

وقد ورد في عمل الخير والصّدقات: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}.

 

إذاً، في حسابات الله، الإنسان مسؤول أن يبقى على توازنه عند كلّ نعمة وعطاء. والمسؤولية في ذلك لا تقف عند الموقف بين يدي الله تعالى، فالإنسان يتحمَّل مسؤوليّة مادية عن أيّ إسرافٍ يحصل منه في الماء أو الكهرباء أو المال…

 

ثقافة حفظ النّعم

إننا بحاجة إلى تربية أنفسنا وأولادنا، وبثّ ثقافة حفظ النعم وعدم الإسراف في الصّرف. وبذلك، نكون جديرين بهذه الثقافة فلا تضيع. وقد كان الإمام عليّ(ع) حريصاً على ترسيخها حتى في أبسط الأشياء، فهو كان يوجِّه عماله إلى أن يدقّقوا في أقلامهم، وأن يقاربوا بين السطور، حتى لا يهدروا الورق الذي يكتبون عليه…

 

ولا ينبغي حتى نبرّر الإسراف، أن نعتبر ذلك كرماً، فهناك فرق بين الكرم والإسراف. فالإسراف يكون حين يصرف المال أو الطعام أو الشراب من غير فائدة وبغير وجه حقّ، أمّا الكرم، فيكون عندما يصرف المال أو الطعام أو أيّ شيء في موقعه الصَّحيح، ولأشخاص يحتاجون إليه أو يستحقّونه.

 

إننا أحوج ما نكون إلى استحضار هذه القيمة في كلّ الزمن، وفي هذا الشّهر تحديدًا، شهر رمضان المبارك، بعدما أصبح هناك، ومع الأسف، تلازم بين شهر رمضان والإسراف، حيث نشهد في هذا الشهر تجاوزاً في تناول الطعام والشراب، أو في المآدب، أو في صرف الأموال، حتى أصبح البعض يشبِّهه بشهر الصرف، لكون المصاريف تزيد فيه.

 

فالله سبحانه وتعالى دعا إلى القيام بمسؤوليَّات هذا الشّهر، وأراد لهذا الشهر أن يكون شهر طاعة وعبادة، شهراً لضبط الشهوات والرغبات، شهراً للصحّة ولتعزيز الإرادة، ومواساةً للفقراء والمساكين، وشهراً للعطاء، ولم يرده شهراً يتفلّت فيه الإنسان من الضّوابط والقيود، شهراً يفقد فيه الإنسان حبّ الله ويعرّضه لبغضه بسبب الإسراف، شهراً يشعر فيه الأغنياء بغناهم والفقراء بفقرهم، بدلاً من أن يشعر الأغنياء بجوع الفقراء.

 

إنَّ إخلاصنا لشهر رمضان، كما هو في الصيام والقيام وتلاوة القرآن والدّعاء، إنّما يتمّ بالوقوف في وجه هذه الظاهرة؛ ظاهرة الإكثار من الطعام والشراب والصّرف الزائد بما يفوق الحاجة، ظاهرة رمي الطعام والشّراب. وإذا كان لا بدّ من مآدب وزوائد تنتج منها، فلا بدّ من عدم رميها، بل توزع على من يحتاج إليها، وما أكثر من يحتاج إليها!

 

وليكن في ذلك دعاؤنا الدّائم: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَامْنَعْنِي مِنَ السَّرَفِ، وَحَصِّنْ رِزْقِي مِنَ التَّلَفِ، وَوَفِّرْ مَلَكَتِي بِالْبَرَكَةِ فِيهِ، وَأَصِبْ بِي سَبِيلَ الْهِدَايَةِ لِلْبِرِّ فِيمَا اُنْفِقُ مِنْهُ".

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نجعل من هذا الشهر شهراً نعيش فيه إنسانيّتنا، عندما نتحسّس آلام الناس من حولنا، من الفقراء والمساكين والأيتام وأصحاب الدّيون والمكروبين والمهمومين وكلّ ذوي الحاجة. وهذا ما نقرأه في دعاء كلّ يوم من أيام شهر رمضان: "اللَّهمَّ أدخل على أهل القبور السرور. اللّهمّ أغنِ كلّ فقير. اللّهمّ أشبع كلّ جائع. اللّهمّ اكسُ كلّ عريان. اللّهمّ اقضِ دين كلّ مدين. اللّهمّ فرِّج عن كلّ مكروب. اللّهمّ رُدَّ كلّ غريب. اللّهمّ فكّ كلّ أسير. اللّهمّ أصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين. اللّهمّ اشفِ كلّ مريض. اللّهمّ سُدَّ فقرنا بغناك. اللّهمّ غيِّر سوء حالنا بحسن حالك. اللّهمّ اقضِ عنا الدّين، وأغننا من الفقر، إنَّك على كلّ شيء قدير".

 

إنَّ من أهمّ القيم التي يحملها لنا هذا الشّهر، قيمة البذل والعطاء، والتحنّن على من يحتاجون إلى حناننا وعطفنا ورعايتنا. ويكفي دليلاً إضافياً نضيفه إلى هذا الدعاء، وجوب دفع الفدية، وهي تقديم الطعام لمسكين عن كلّ يوم صيام لمن لا يستطيع الصيام، وهذا يعني أن الصيام في حسابات الله، يوازيه إطعام فقير أو مسكين.

 

ومتى وعينا هذه القيمة، فإننا سنقلّل كثيراً من احتياجات الناس من حولنا، ولن نضطرّهم إلى أن يمدّوا أيديهم إلى أحد، حتى يحصلوا على ما فيه عزتهم وكرامتهم. وبذلك نصبح أكثر قوّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

 

فلسطين: الرّهان على الشباب

والبداية من فلسطين، الَّتي أظهرت فيها مسيرات العودة مدى ثبات الشَّعب الَّذي استطاع بشيوخه وأطفاله، بنسائه وشبابه، بالرضّع من أبنائه، وبالمعوّقين والمقعدين، أن يتحدّى، وبالصّدور العارية، آلة القتل الإسرائيلية.

 

لقد أثبتت هذه الهبَّة الجديدة للشعب الفلسطيني، أنَّ رهان العدوّ على أنَّ الأجيال الجديدة ستنسى القضية الفلسطينية، ذهب مع الريح، وأنَّ كلّ قرارات العالم، وكلّ عسف العدوّ وصلافته وجبروته، لم يستطع أن ينال من شغفهم في العودة إلى أرضهم، والمطالبة بحقهم في استعادة الأرض التي دنّسها الاحتلال.

 

إنَّ رهاننا كان، وسيبقى، على هؤلاء الشباب الذين عاشوا طهر القضية ولم يتلوَّثوا، ولذلك أخلصوا لأرضهم، وامتلكوا زمام المبادرة، ولن يسمحوا للأمر الواقع الَّذي يراد فرضه بأن يمرّ، وبالتالي، فإنّ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس لن يُغيّر شيئاً، فالأرض لأهلها، ولمن هو على استعداد دائم لأن يبذل الدماء رخيصةً في سبيلها.

 

إدانة شكليّة!

لقد كان لافتاً أنَّ المواقف الغربية، والأوروبية تحديداً، كان فيها من الحرارة أكثر من المواقف العربية الرسمية التي اكتفت بالإدانة الشكلية للمجزرة التي ارتكبها العدوّ، من دون اتخاذ القرارات الرادعة إلّا متأخراً، وبعد أن بلغ السيل الزبى، ليكون بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دوليّة في جرائم غزة، وكأن الأمر فيه شكّ!

 

إننا نأسف لأن لا نرى في كثير من بلدان العالم العربي وغيره الحشود الشعبيّة التي ترفد الفلسطينيين وتؤازرهم وتدافع عنهم إلّا القليل. وننوّه هنا بالشّعب اليمني الذي خرج، رغم كلّ الظروف التي يعيشها، ليعبّر عن إدانته للمجازر التي جرت بحقّ الشعب الفلسطينيّ في غزة. ولذلك، فإننا ندعو الجميع، من هيئات علمائيّة ونقابيّة، ونخب وطلائع طلابية وجماهير شعبيّة، إلى التّضامن مع هذا الشعب، وعدم تركه وحيداً، لأنَّ خذلان هذا الشعب سيشجّع العدو الصهيوني على الاستمرار بمجازره ومشروعه لإسقاط القضيّة الفلسطينيّة بالكامل.

 

إنّنا نرى خطراً كبيراً في السّكوت في هذه المرحلة، التي يراد فيها أن يضيع مستقبل القضية الفلسطينية التي هي قضية كلّ إنسان عربي ومسلم ومسيحي، فيما يعرف بصفقة القرن.

 

في انتظار الحكومة الجديدة

وإلى لبنان، الَّذي ينتظر في الأيام القليلة القادمة، انطلاق عقد المجلس النيابي الجديد الَّذي تقع عليه مسؤوليّة كبيرة، لكونه المؤسَّسة الأولى التي نرى أنها، إن أدَّت الدور المطلوب، ستصلح بقيّة المؤسَّسات، وإن لم تؤدّ دورها، فسينعكس ذلك على مسار كلّ المؤسَّسات. ونحن إزاء هذه المرحلة الحسّاسة التي يمرّ بها الوطن، حيث تعصف الأزمات في الداخل، أو فيما يجري في الخارج، والذي بدأ ينعكس على الدّاخل، وقد كان آخر تجلياته في العقوبات التي فرضت على مكوّن أساس من مكوّنات هذا الوطن.. إزاء ذلك، نأمل أن لا يطول الانتظار لتشكيل حكومة، كما جرت العادة في هذا البلد، وألا يدخل البلد في أزمة تقاسم الحقائب وفرض الشروط والشروط المضادّة.

 

كما نأمل أن تفضي الأجواء الإيجابيّة التي عبّرت عنها القوى السياسية أو اللقاءات التي تجري فيما بينها، إلى تشكيل حكومةٍ نريدها أن تكون حكومةً على صورة الأحلام التي وعد بها اللّبنانيّون، حكومة عمل لا حكومة تسيير أعمال، حكومة متعاونة لا حكومة مناكفات وصراعات، حكومة خالية من الفساد والمفسدين، حكومة تسعى لخدمة مصالح الناس لا لمصالح مكوّناتها، حكومة تنقذ البلد من أزماته وتعمل على حمايته من تطورات المنطقة، لا حكومة هي انعكاس للتوترات الحاصلة في المنطقة والعالم.

 

إنّ اللبنانيين يتطلّعون إلى كلّ القوى السياسية حتى تقوم بأداء جيد يعيد الثقة إلى الناس، بعد الرسالة الواضحة التي عبَّر عنها اللّبنانيون في صناديق الاقتراع، أو بعدم مشاركتهم الانتخابات، والتي أظهروا فيها عدم رضاهم على الأداء السياسي للكثير من هذه القوى.

 

إننا لا نريد أن نحكم سريعاً على المرحلة القادمة، ولكنّنا نريد أن نسجّل نقطةً سوداء على الأداء السياسي للحكومة بعد الانتخابات، حين عادت إلى سابق عهدها في المحاصصات التي جرت في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، سواء في ما يتعلق بالتعامل مع أزمة بواخر الكهرباء، أو بالأملاك البحرية، أو الجامعات… ونخشى أن تستكمل ذلك في الجلسة الأخيرة المتبقّية لمجلس الوزراء.

 

حقّ البقاع على الدّولة

ونحن ندعو إلى معالجة حاسمة لما يجري من التفلّت الأمنيّ المتصاعد في البقاع، والّذي هدَّد ويهدّد حياة الناس هناك وأرزاقهم. وهنا، ندعو الدّولة، بكلّ أجهزتها، إلى تحمّل مسؤولياتها، بعدما أمّنت لها كلّ القوى السياسية والشعبية الغطاء الكافي للقيام بدورها في هذا المجال، وعليها أن تسارع للقيام به.

 

إنَّ للبقاع حقاً كبيراً على الدولة، وواجب عليها القيام به، فهو كان دائماً حاضراً في قضايا الوطن، وكان خزّاناً للجيش وللمقاومة، وسيبقى حاضراً فيها.

 

البحرين: إجراء مستنكر!

وبالانتقال إلى ما يجري في البحرين، فإننا نستغرب معاودة السلطات فيها، أسلوبها الذي سبق أن استخدمته بإسقاط الجنسية عن المعارضين، حيث أسقطت هذه المرّة الجنسية عن 115 بحرينياً، فيما يشبه الإصرار على التعاطي مع المطالب المحقّة للشعب بأسلوب الطرد ونزع الجنسية، بدلاً من الدخول في حوار جدي ينهي حالة اللااستقرار، ويعيد إلى البحرين مكانتها ودورها.

 

إننا نؤكّد ضرورة التراجع عن هذا القرار، ونرى في هذا التمادي في الضغط على الشعب والمعارضة، إصراراً على تصعيد الأمور وتعقيدها، مما لا يصبّ في مصلحة البحرين، شعباً ونظاماً.

 

ذكرى إسقاط اتّفاق العار!

وأخيراً، نستعيد في السابع عشر من شهر أيار، ذكرى الانتفاضة المجيدة التي انطلقت من مسجد بئر العبد، في مواجهة اتفاق السابع عشر من أيار، الذي أريد له أن يحقّق أطماع إسرائيل ومصالحها، على حساب استقلال لبنان وقوّته وحريته، وحقّ اللّبنانيّين في أرضهم وثرواتهم.

 

إننا في هذه المناسبة، نجدّد العهد لسماحته، وهو في عليائه، على الاستمرار بهذه الرّوح التي عبَّر عنها في كلّ مواقفه وحركته، وسنكون الأوفياء له في حفط النهج الذي يريد لبنان أن يكون قويّاً عزيزاً حرّاً مستقلاً، لا بالشّعار، بل بالتحقيق.

 

 

Leave A Reply