رعى الإفطار السنوي لجمعية المبرات الخيرية| فضل الله: ستبقى المبرات مؤسسة راسخة بعمقها الديني والأخلاقي

رعى العلامة السيد علي فضل الله الإفطار السنوي الذي أقامته جمعية المبرات الخيرية في قاعة الكوثر بحضور ممثلين عن الرؤساء الثلاثة وحشد من الشخصيات الدينية والوزارية والنيابية والاجتماعية والثقافية والبلدية.

 

وألقى سماحته كلمة ركز فيها على معاني شهر رمضان المبارك الذي يعيد للإنسان تصويب مساره الإيماني  والأخلاقي، مشدداً أن الطريق إلى الله يمر عبر التخفيف من آلام الناس وهو شكّل الرسالة التي حملتها جمعية المبرات بفكرها المؤسسي وعقلها الانفتاحي وتوجهها الإنساني.

 

ولفت سماحته إلى أنهذه المؤسسة ليست إرثاً لفرد أو موقع أو جماعة بل للناس الذين احتضنوها وهم الذين يتابعون مسيرتها والرقابة عليها ومما جاء في كلمته:

 

نلتقي مجدّداً في رحاب هذا الشهر الَّذي يثري الزمن، ويمتدّ بالقيم المودعة فيه في كلّ تفاصيله، ليكون الزمن الذي يغتني فيه العقل بوعي معنى الوجود، ويغتني فيه القلب بالطهر والصفاء، وتضج فيه الحياة بروح العطاء وينابيع الخير والمحبة التي تعيد الروح والأمل إلى المتعبين والمساكين والمتألمين والمستضعفين والمحرومين.. فلا تعود الحياة مجرد لعب ولهو، أو هروباً وانهزامية عن وعي ما يجري حولنا، كما يعيشها المترفون اللاهون، بل تكون إنسانية تغني ما حولها ومن حولها.. ولذلك، تصير الأنفاس تسابيح والنوم عبادة والدعاء مستجاباً، وتعظم العطاءات..

أيها الأحبة،

إن الطريق المعبّد إلى الله لا يمكن أن يمرّ إلا بالتخفيف من آلام الناس، ورفع معاناتهم، والنهوض بهم، وإخراجهم من مهاوي الجهل والتخلف والفقر.. "فالخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.. ومن أدخل على أهل بيت الله سروراً".. والإنسان لا يبلغ القمة في العبادة حتى يكون مشّاءً في قضايا الناس.

أما الأنانيون الذين يختنقون في ذواتهم، ولا يرون الناس إلا أرقاماً أو وسائل وأدوات لتحقيق أطماعهم ومصالحهم الخاصة.. فهم أبعد ما يكونون عن الله، هم لا يعرفونه، ولو عرفوه لتمثلوه في سلوكهم عطاءً، كما هو مع عباده، يفيض عطاؤه نوراً ومطراً وينابيع تتفجر بكل ألوان الخير..

الأنانيون هم مشكلتنا في هذا الوطن، وفي كل الأوطان، لأنهم لا يرون الوطن إلا بقرة حلوباً لحساب مصالحهم، فيستنزفون موارده ومقدراته، من دون أن يرفّ لهم جفن.

إننا لا يمكننا أن نعطي للبنان المعنى الذي يستحقّه، كبلد فيه كلّ هذا الثراء الديني والمذهبي، إن لم يحمل في كل مكوناته ومواقعه عناوين التسامح والانفتاح والمحبة والرحمة في كل منطلقاته وتنوعاته.. وعندها فقط يتحوّل البلد إلى قيمة تجمع لا تفرق، وإلى رسالة ترشد وتوعي، وعندها لن نجد مسلماً يطالب فقط بحقوق المسلمين، ومسيحياً يُطالب فقط بحقوق المسيحيين، أو سنياً يطالب بحقوق السنة، أو شيعياً بحقوق الشيعة، أو درزياً أو غير ذلك من التنوعات، بل سنجد مسلماً يطالب بحقوق كل اللبنانيين، ومسيحياً يريد الخير للجميع.. فالأنبياء والرسل لم يحملوا هَمَّ الذين ساروا معهم فقط، بل هموم كل الناس.. ولا بد لأتباعهم من أن يكونوا على صورتهم..

ولذلك، فإنّني أقول لكلِّ الذين يحصرون حديثهم بالمطالبة بحقوق المسيحيين: إنكم بذلك تسيئون إلى المسيحية والمسيحيين، كما أقول لمن يحصرون حديثهم بالمطالبة بحقوق المسلمين: إنكم بذلك تسيئون إلى المسلمين والإسلام.. وأقول للجميع: تعالوا لنُعلي شعار رفع الغبن عن الجميع، لأننا لا يمكن أن نبني وطناً يشعر فيه الناس بالغبن، فالغبن هو مشروع فتنة وحرب ومشروع تدخلات للدول الطامعة.

إننا، مع الأسف، لا نتنفَّس في لبنان الأديان والمذاهب، إننا لا نرى الأديان في الخطابات.. ولا في الممارسة السياسية.. أو في الأداء السياسي.. نحن نتنفَّس طائفية لا تحمل من الدين إلا اسمه، وعلى اسمه تستثار أحقاد التاريخ ومخاوف الحاضر.. وهذا ما شهدناه من وقت قريب في الكثير من الخطاب الانتخابي، وهذا ما سنشهده مع الأسف دائماً ما دمنا نفتقد المشاريع والرؤية لمستقبل الوطن، وما دمنا بعيدين عن الأخلاقيات السياسية.. ولذا سوف يستمر الكثيرون من المسؤولين في استخدام أبسط الطرق للتغطية على الفساد والأنانية وعلى الفشل والإبقاء على الأزمات والتهرب في معالجتها، من خلال استثارة الغرائز الطائفية والمذهبية..

ولذلك، حذَّرنا قبل الانتخابات من هذا الخطاب الطائفي والمذهبي، وقلنا إنَّ الناس في وادٍ آخر، وقد بيَّنت الانتخابات هذه الحقيقة، وأنَّ الناس يريدون من يحل لها مشاكلهم ويعالج وجعهم وألمهم.. ولهذا انكفأوا عن المشاركة في الانتخابات، رغم كل هذا الخطاب، أو أعطوا فرصة إضافية لمن يعي.. ونأمل أن تكون الرسالة قد وصلت، وأن يتحرك من يتسلمون مواقع المسؤولية للقيام بمسؤوليتهم ومعالجة مشاكل الوطن.. وما أكثرها! وما أكثر ما يتهددنا من حولنا وما ينتظرنا!

إننا نأمل أن تحمل الأيام القادمة نفساً جديداً، وعقلاً فاعلاً، وروحاً منفتحة في إدارة كل مواقع الحكم، وبكلِّ تفاصيله وخصوصاً في تشكيل حكومة في القريب العاجل حكومة نريدها أن تكون على صورة الأحلام التي وعد بها اللبنانيون، حكومة عمل لا حكومة تسيير أعمال، حكومة متعاونة لا حكومة مناكفات وصراعات، حكومة خالية من الفساد والمفسدين، حكومة تسعى لخدمة مصالح الناس لا لمصالح مكوناتها، حكومة تنقذ البلد من أزماته وتعمل على حمايته من تطورات المنطقة، لا حكومة هي انعكاس للتوترات الحاصلة في المنطقة والعالم..

اما التحديات الوطنية الكبرى فسوف يبقى رهاننا على وعي اللبنانيين ووحدتهم في مواجهتها ، وهم عندما توحَّدوا انتصروا على أقوى جيش في المنطقة، وعلى التكفيريين، وعندما يتوحَّدون سيجددون هذا الانتصار على كلّ ما يتهددهم من الخارج ومن الداخل..

ونحن عندما نتطلَّع إلى المشهد من حولنا في هذا الجوار العربي والإسلامي، كنا نرى، ولا نزال، في كلّ ما يجري من حولنا من حروب بالوكالة أو الأصالة، أن الهدف منها هو أبعد بكثير مما رفع من خلالها من شعارات حملت عنواناً إسلامياً أو قومياً تارة، وحملت عنواناً ديمقراطياً تارة أخرى…

ونحن لا نتنكَّر في كل ذلك لإرادة التغيير المطلوبة في هذه المنطقة.. ولكن جرى تضييع الكثير من الشعارات الكبيرة أو تشويهها، لتتحول إلى دخان يحجب كلّ تلك الارتكابات التي استهدفت إضعاف القوة العربية أو الإسلامية وتفتيت بلداننا بكل ألوان الانقسامات، ليمر المشروع الأخطر المتمثل في إنهاء القضية الفلسطينية، وتثبيت الكيان الصهيوني كحقيقة راسخة في المنطقة…

لقد رأينا كيف عمل الرئيس الأميركي وإدارته على أن تكون الذكرى السبعون للنكبة بمثابة الإعلان عن فصل جديد من فصول الإعلان عن نهاية فلسطين، وقيام الكيان الصهيوني بنقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ هذا الحدث الذي نعرف، كما يعرف الجميع، بأنه الخطوة الأولى في مرحلة يُراد فيها للقضية الفلسطينية أن تموت بالكامل، وأن تخرج من الساحة العربية والإسلامية، لتكون مجرد قضية شعب تُبحث في إطار الاعتراف بحق العدو في السيطرة على بلادنا وتطبيع العلاقات معه بعيداً من القدس وحق العودة…

إننا نرى أنَّ المسألة دخلت في المتاهات الخطيرة، ولم تعد الموازين فيها تنطلق على أساس أن نرضى أو لا نرضى، أو نشجب أو نستنكر.. فالصهاينة يريدوننا أن نخضع بالكامل، وأن ننظر إلى القضية الفلسطينية نظرة عابرة، ونحن نعرف أنَّ هذه القضية دخلت وتدخل في كل مفاصلنا، وأنها لم تعد قضية خارجية، بل تحوّلت إلى قضية تمس مستقبل بلداننا ومصير شعوبنا، فضلاً عن كونها قضية إيمانية وأخلاقية وإنسانية..

ونحن في الوقت الذي نلمس كلّ هذه الخطورة، فإننا نرى بصيص أملٍ في هذه الجذوة المتقدة من الشعب الفلسطيني؛ هذا الشعب الصامد والصلب الذي لا يزال يبعث الأمل فينا جميعاً كلما أحسسنا بأنَّ الدنيا قد أطبقت فعلاً عليه وعلينا، ونحن نرى في مسيرات العودة التي انطلق فيها هذا الشعب كالسيل الجارف، واستشهد أبناؤه على أبواب فلسطين، أكبر تحدٍّ، ليس للعدو وحده، بل لكل أولئك الذين وقّعوا مسبقاً للعدو على فلسطين، وتنصَّلوا منها ليبرروا مواقفهم في مواجهة عدو مفترض آخر، وقد رأيناهم كيف يصفّقون للرئيس الأميركي عندما يعلن إلغاء هذه المعاهدة الدولية أو هذا الاتفاق الدولي، مع أنهم يعرفون مسبقاً ما معنى أن تُلغى الاتفاقات التي وُقعت تحت سقف الأمم المتحدة، وكيف أن هذا الأمر سيؤثر سلباً في الأمن والسلم الدوليين، وسوف يترك المنطقة في مهب الريح، وسيجعل الواقع السياسي والأمني فيها مهتزاً، لتدفع من بعد ذلك شعوبهم الثمن من أمنها السياسي والاجتماعي، قبل أن يدفع غيرهم هذا الثمن، ولن تكون حينها حتى المصالح الأميركية بمنأى عن ذلك، ما دامت هذه الإدارة تمضي في تغليب مصلحة إسرائيل على مصالحها الخاصة..

إنَّ هذا العالم الذي نعيش فيه قد تغيّر كثيراً عما كان في العقود السابقة، ولن يعرف الاستقرار إلا بتفاهمات دولية وإقليمية على حساب سياسات التهديد والضغوط والتلويح بالحروب، التي أثبت التاريخ أنها لن تحقق لأصحابها إلا النتائج المرة..

وأخيراً، أيها الأحبَّة، ونحن على أعتاب الذكرى الأربعين لبدء انطلاق مسيرة جمعيَّة المبرات الخيريَّة.. هذه العقود الأربعة الَّتي كانت عقود خير وعطاء، ولمسة خير، ومسحة حنان في وطن يعيش إنسانه أقسى المعاناة والآلام ويقلع شوكه بأظافره.. هي مسيرة ممتدّة كانت نتاج تعاون إرادات الخير التي لم تتوقف ولن تتوقف في متابعة دورها، وهو الخير للإنسان والحياة ، من أجل تعميق الوحدة، ومدّ جسور التواصل داخل الوطن، وإعادة الإشراق والإيمان إلى صفائه ونقائه لتحكم الأخلاق الحياة.

إنَّ هذه المؤسَّسات الَّتي كانت نتاج جهودكم وتعاونكم، والتي أعطيتموها الكثير، ستبقى تعبيراً عن هذا التعاون، ولن تكون يوماً مؤسَّسة فرد، أو لحساب فرد، أو جهة، أو موقع، بل مؤسسة تحمل عمقها ومضمونها الدّينيّ والإنسانيّ.. هي ليست إرثاً ولن تكون ارثاً لفرد.. وجدت مؤسسة وسوف تبقى محكومة بالعمل المؤسسي، وأظنّ أنّنا نجحنا في ذلك من داخل المؤسَّسات وخارجها.. وأنتم معنيّون بالرقابة عليها، كما بدعمها وحفظها، لتبقى على نهجها الَّذي رسمه لها المؤسّس، والذي نؤكّد البقاء عليه وحفظه، كنهج نراه أسلم للإنسان والحياة ولهذا البلد.. شكراً لحضوركم لتعاونكم لعطاءاتكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Leave A Reply