الإمام الصادق(ع) في مواجهة الاحتكار

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.

مرت علينا في الخامس والعشرين من شهر شوال ذكرى وفاة واحد ممن أمر الله سبحانه وتعالى بمودتهم، وهو الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، هذا الإمام الذي ملأ الآفاق علماً وحلماً وحواراً وانفتاحاً وإنسانية.. والمودة لأهل البيت(ع)، أيها الأحبة، لا تبلغ كل اهدافها ومآربها إلا عندما نتمثلهم في سلوكهم وأخلاقهم وبذلهم وعطائهم، وفي خدمتهم للإسلام وتضحيتهم في سبيله، وأن نسعى الى أن نهتدي بهديهم..

وقد عبر عن ذلك الإمام الباقر(ع) عندما قال: “أفيكفي الرجل أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء”.

ومن هنا، أيها الأحبة، سنتوقف عند احد مواقف الامام الصادق (ع) لنتعلم من سيرته ما نحن أحوج ما نكون إليه في هذه المرحلة الصعبة. حيث تذكر سيرته (ع) إنه دعا إليه يوماً أحد عماله واسمه “مصادف” وأعطاه ألف دينار، وقال له: إن عيالي قد كثروا وأحتاج إلى مال لتدبر شؤون معيشتهم (وهنا إشارة إلى أن الإمام الصادق(ع) وكل أئمة أهل البيت(ع) كانوا يتدبرون معيشتهم بجهدهم وعملهم فمن يتابع سيرتهم يجد أنهم كانوا يعملون كما يعمل بقية الناس) فتجهز مع قافلة من التجار إلى مصر، وفي الطريق التقوا بقافلة خرجت للتو من مصر تريد العودة إلى بلدها فسألوهم عن مدى حاجة الناس إلى البضاعة التي جاؤوا بها..

فقالوا لهم ليس بمصر منها شيء والناس فيها بأمس الحاجة إليها، عندها اتفق التجار ومعهم “مصادف” أن يضاعفوا الربح الذي كانوا سيبيعون فيه، وهذا ما حصل، فلما عادوا دخل “مصادف” إلى الإمام الصادق(ع) وهو فرح مسرور بما أنجز ويحمل معه كيسان كل منهما فيه ألف دينار، وقال للإمام(ع): هذا كيس فيه ألف دينار وهو رأسمالك الذي أعطيتني إياه قد عاد لك وهذا كيس آخر يحوي ألف دينار، وهو الربح الذي حصلت عليه…

أعتقد “مصادف” أن هذا الخبر سيريح الإمام(ع) ويفرحه، ولكن الإمام(ع) قال له: هذا ربح كثير وما أظن أن البضاعة التي بعتها تؤدي إلى هذا الربح، فأخبره “مصادف” بما جرى وكيف تحالف مع باقي التجار كي يحصلوا على هذا الربح.. مستفيدين من فرصة انقطاع هذه البضاعة.. هنا غضب الإمام(ع) غضباً شديداً، وقال لمصادف: تتحالفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلا بريح دينار بدينار، لا والله لا آخذ هذا الربح، آخذ الكيس الذي فيه رأس مالي، أما الكيس الآخر فتدبره وأرجعه إلى من أخذته منه ولو كلفك ذلك السفر إلى مصر.. فأنا لا آكل مالاً بالباطل وهو على حساب الآخرين..

أيها الأحبة: لقد أراد الإمام(ع) من خلال موقفه الحاسم مع عامله أن يبين المنهج الإسلامي الذي يرفض الاحتكار، فالإسلام لم يجز للتاجر أن يستغل حاجة الناس إلى بضاعته فيبيعها بسعر عال ليربح أرباحاً مضاعفة يتجاوز فيها الربح الطبيعي في البيع، لأن في ذلك إضراراً بمصالح الناس وحاجاتهم وتعبيراً عن أنانية وشجع وحب للمال، والمسلم لا يمكن أن يكون أنانياً، جشعاً يحب المال حباً يتجاوز فيه حدود إنسانيته..

وإلى ذلك أشارت الأحاديث عندما اعتبرت المحتكر خائناً ومطروداً من رحمة الله ومن أسوأ الناس، ففي الحديث: “لا يحتكر إلا الخوانون”.. المحتكر ملعون”.. “بئس العبد المحتكر، إن أرخص الله الأسعار حزن وإن أغلاها فرح”..

وهذا ما ورد من أمير المؤمنين علي(ع) في عهده لواليه مالك الأشتر لما ولاه مصر – وكتابه عليه السلام يجب ان يكون دستوراً لكل من يتصدى للشأن العام على المستويات كافة -:  واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول(ص) منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه  فنكل به، وعاقب في غير إسراف”..

أيها الأحبة: إننا أحوج ما نحتاج إليه في مجتمعنا، لا سيما في هذه الظروف القاسية التي نعيشها، إلى تجار وعمال واصحاب مصالح بمختلف تنوعاتها يعيشون القيم الأخلاقية ويتحسسون الرأفة بالناس والرحمة بهم، فلا يستغلون حاجة الناس إليهم في ما يملكون من بضاعة أو ما يمكن أن يقدمونه من خدمة أو عمل، فيرفعون أسعار بضاعتهم أو خدماتهم، لأن لا غيرهم في السوق، أو لا أحد يقوم بما يمكنهم القيام به ويرون أن من حقهم ذلك.. ففي ذلك تعبير عملي عن إنسانيتهم وإيمانهم.. والصورة التي أراد الله للمجتمع المؤمن أن يبني عليها، فهو يريده متكافلاً متعاوناً يحس كل من فيه بآلام البعض الآخر وبحاجاته، ويرى أن ما يصيب الآخرين يصيبه وما يعاني منه الآخرون يعاني منه، كما أشار إلى ذلك رسول الله(ص): “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.. “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً”.. “ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”.. “لا يكون المؤمن مؤمناً، حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها”..

وبذلك يكونون فعلاً من أصحاب رسول الله(ص) ممن قال الله عنهم: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}..

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الصادق(ع) أحد أصحابه وهو ابن جندب حين قال له: “يا ابن جندب بلّغ معاشرَ شيعتِنا وقلْ لهم لا تَذهَبَنَّ بكم المذاهب، فوالله لا تُنالُ ولايتُنا إلا بالورعِ والاجتهادِ في الدنيا ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس”..

هذه هي وصية الإمام لكل لشيعته، وبها أراد لهم أن يعرفوا بأنهم حتى يكونوا شيعة لا بد أن يكونوا الورعين عن معاصي الله المجتهدين في أمور الدنيا، أن لا يكونوا بطالين لاهين عابثين وأن يحبوا لإخوانهم في الله ما يحبون لأنفسهم ويكرهون لهم ما يكرهون، وأن لا يظلموا الناس في أموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم حتى لو اختلفوا معهم في أديانهم ومذاهبهم ومواقعهم السياسية وفي مواقفهم….

ومتى كانوا كذلك فسيكونون كما أراد لهم أئمتهم عندما كانوا يقولون لهم: “كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح”، وستكونون أقدر على مواجهة التحديات..

والبداية من لبنان حيث لا يزال الحصول على الدولار هاجس اللبنانيين وهو ما تعبر عنه طوابيرهم التي تقف في صفوف طويلة من أجل الحصول على النزر اليسير منه لتأمين احتياجاتهم وللحفاظ على قيمة أموالهم، لأنهم ما عادوا يثقون بعملتهم الوطنية، ومن المؤسف أن كثيراً ممن يسعون إلى الحصول على الدولار أو جلهم كانوا قد أودعوا الدولارات التي يملكونها في البنوك لكنهم باتوا غير قادرين على الحصول عليها..

وفي هذا الوقت، لم تؤد كل الوسائل التي تم اللجوء إليها إلى لجم ارتفاع سعر الدولار رغم كل الجهود التي بذلت، وبقي على ارتفاعه في مقابل العملة الوطنية، لأن الإجراءات المتخذة لم تزد عن كونها من قبيل المسكنات غير القابلة للاستمرار..

ويبقى الحل هو باستعادة ثقة المواطنين بالدولة، فما دامت الثقة معدومة فسيبقى المواطنون يتعاملون بالدولار أو سيسعون لتخزينه لقابل أيامهم، وآليات هذه الاستعادة واضحة ولسنا بحاجة إلى أن نكررها وهي تشمل تحفيز الاقتصاد الإنتاجي ومكافحة الفساد ووقف المحاصصات واختيار الأكفاء في التعيينات واستعادة الأموال المنهوبة وإصلاح النظام القضائي وإعادة النظر في السياسة المالية ــ النقدية..

وفي هذا الاتجاه، تستمر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل تأمين موارد للخطة الاقتصادية التي وضعتها الحكومة.. وقد أصبح واضحاً أن هذه المفاوضات لن تؤدي إلى نتائج سريعة أو إلى حل يخرج البلد من أزماته، وذلك يعود في جانب منه إلى تلكؤ الحكومة اللبنانية في تنفيذ الإجراءات التي عليها القيام بها ولاعتبارات تتعلق بالصندوق نفسه وبالشروط التي يفرضها..

ومن هنا، فإننا نعيد دعوة الحكومة إلى ما كنا قد قلناه سابقاً من ضرورة عدم الاكتفاء بهذا الخيار واعتماد البدائل المتاحة التي تبعد هذا الوطن عن كأسه المرة، فمن حق لبنان أن ينفتح على الشرق والغرب، وكل الدول التي يمكن أن تساعده لحل أزماته..

وفي الوقت نفسه، فإننا نجدد دعوتنا إلى القوى السياسية إلى التكاتف والوحدة في مواجهة التحديات التي يتعرض لها البلد سواء على الصعيد الاقتصادي أو لمواجهة التوتر المذهبي والطائفي، واختيار الأسلوب الأنسب لمواجهة المرحلة القادمة والصعبة..

وهنا ننوه بأي مبادرات حصلت أو ستحصل، وإن كنا نريدها أن لا تكون لقاءات مجاملات تنتهي بانتهائها، بل أن تكون لقاءات جادة تدرس الأمور بالعمق وبعيداً من أي حسابات طائفية أو مذهبية أو خاصة..

إن البلد أحوج ما يكون إلى الأيدي الممدودة بعضها إلى بعض لإخراجه من أزماته وتعزيز أواصر الوحدة في ما بينها التي ينبغي أن تكون الرأسمال الأساس لهذا البلد، والتي كانت مصدر قوته سابقاً ومكنته من تجاوز التحديات وستبقى كذلك في المستقبل إن قرر المسؤولون ذلك ونخشى أن لا قرار لهم حتى الآن..

من ناحية أخرى، بدأت الإدارة الأميركية تطبيق قانون قيصر الذي يعاقب كل من يتعامل مع النظام السوري، وهو البعيد كل البعد عن الأعراف والقوانين التي تحكم الدول، فليس من حق أي دولة مهما كبرت وعلت وعظمت قدراتها أن تعاقب دولة أخرى أو تحاصرها وهي عضو في الأمم المتحدة وبعيداً من آليات القانون الدولي وعن العدالة والإنسانية.. فأمريكا في هذا القانون هي حكمت وهي تنفذ وحتى بدون أن تسمح لسوريا أن تدافع عن نفسها.. وإذا  كانت الذريعة حماية المدنيين فلماذا لم يشرع مثل هذا القانون في مواقع أخرى في العالم حصلت فيها انتهاكات حقيقية خطيرة، فكم من مجازر ارتكبت في فلسطين أو في لبنان أو في غيرهما من دول العالم.

وقد أصبح واضحاً مدى تداعيات هذا القانون على العديد من الدول ومنها لبنان، نظراً إلى علاقة لبنان بسوريا والشؤون المتعددة والمشتركة بينهما من اقتصادية وغيرها.. ولكون سوريا تمثل الرئة التي يتنفس منها لبنان حيث هي المنفذ البري الوحيد للناس وللكثير من المشاريع المشتركة بين البلدين ما يستدعي من الدولة اللبنانية دراسة كل السبل التي تقي لبنان من أي تداعيات قد تحصل..