الإمام زين العابدين(ع): القدوة في سموّ الأخلاق

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} صدق الله العظيم.

 

في كلمة للإمام زين العابدين(ع) علي بن الحسين(ع).. هذا الإمام الذي مرت علينا ذكرى ولادته في الخامس من شهر شعبان وهو يتحدث عن أحب الأشياء إلى نفسه قال: "ما تجرّعت من جرعة أحب إليّ من جرعة غيظٍ لا أكافئ بها صاحبها".

 

هو اعتبر أن أحب الأشياء إلى نفسه هو أن لا يبادل الإساءة يمثلها، بل أن يبادلها بالإحسان منه.. وهذا السلوك هو الذي طبع شخصية هذا الإمام من بين العديد من المزايا التي اتصفت بها شخصيته.. فقد كان كما لقب زيناً للعابدين وسيداً للساجدين لكثرة سجوده وعبادته.. وكان محباً للفقراء وهو الذي كان يقول: "اللهم حبب إلي صحبة الفقراء، وأعني على صحبتهم بحسن الصبر".. وكان إذا جن الليل وهدأت العيون والناس ينام يخرج من بيته حاملاً الطعام على ظهره لكي لا يقضوا ليلتهم جائعين.

 

 

وكان عنواناً للصبر.. وقد تمثل ذلك في كربلاء في صبره على مرضه وعندما حدثت أمام عينيه مآسيها وآلامها.. وبعد كربلاء في الشجاعة التي أبداها الإمام أمام ابن زياد في الكوفة عندما هدده بالقتل إن هو استمر بتحديه قائلاً له: أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟".. وقد قال ليزيد في الشام: "أبشر يا يزيد بالخزي والندامة"..

 

ونحن اليوم سنتوقف عند بعض المواقف التي تمثلت بها قيمة كظم الغيظ والعفو ومبادلة الإساءة بالإحسان.. وقد برزت لدى الإمام(ع) في تعامله مع مختلف تنوعات المجتمع مع العبد والسيد ومع القريب والبعيد والحاكم والمحكوم ليؤكد على الطابع الشامل لها..

 

أولها موقفه من أحد أقربائه الذي كان يحسد الإمام(ع) ويحقد عليه، ما دفعه يوماً إلى أن يتهجم على الإمام(ع) ويصفه بنعوت مسيئة وعلى مرأى من أصحابه، فلما انصرف قال لأصحابه: "لقد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أحب أن تأتوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردّي عليه!".. وهم لا يشكون إن رد الإمام(ع) سيكون قاسياً.. ولكن في الطريق سمعوه يقول {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فعرفوا أن الإمام(ع) لا يريد ما كانوا يتمنون، فلما وصل الإمام إلى بيت ذلك الرجل خرج متوثباً للشر، لكن الإمام هدأ روعه و قال له "ما جئنا لهذا ولكن لأقول لك: لقد سمعت كلامك وان كان ما قلته فيّ فأنا أستغفر الله منه وأشكرك عليه لأنك نبهتني عليه، وان كنت ما قلته ليس فيّ ولا استحقه فغفر الله لك لإساءتك إلي"…

 

 

كلمات قليلة كانت كافية لتهز أعماق هذا الرجل ولتجعله يعيد النظر بموقفه من الإمام(ع)، وليقول له: ما قلته ليس فيك وأنا احق به… أنا الخاطئ وأنا الجاني… أرجو أن تعفو عني وان تستغفر لي ربك، وصار هذا الرجل من بعدها من أخلص الناس للإمام، وهنا نسأل ماذا لو بادل الإمام هذا الرجل بمثل فعلته أو بأقسى من ذلك كما يحصل عادة منّا… أحقق الإمام(ع) ما تحقق له الآن أو كسب لرسالته ما كسب…

 

وموقف ثان مع أحد مواليه والمقصود أحد عبيده، ومن المعروف عن الإمام زين العابدين(ع) أنه كان يشتري في كل عام العبيد، ليعتقهم في موسمين في شهر رمضان وفي يوم عرفة، هنا تذكر السيرة أن عدداً من الضيوف حضروا إلى الإمام(ع)، فآثر الإمام أن يعد لهم شواء، فاستعان بهذا العبد ليعينه على تحضير الطعام ويقوم بالشواء، وعندما حل وقت الطعام تعثر هذا الخادم وهو يحمل السفود الشديدة الحرارة بعد أن أخرجها من التنور (السفود هي السياخ الطويلة التي كان يوضع فيها اللحم) فسقطت على رأس ابن صغير للإمام(ع)، فاحترق بسببها فتغير وجه العبد وأصابه الهلع من رهبة الجزاء، لكن الإمام(ع) قال له: هون عليك فأنك لم تتعمد ذلك، ولم يكتف الإمام(ع) بذلك بل قال له: اذهب فأنت حر لوجه الله.. لنتصور أن أحدنا والكثير منا آباء وأمهات حصل له ما حصل للإمام زين العابدين(ع) من أحد خدمه أو من أي إنسان عامل عنده أو أي شخص كيف كان يتصرف؟ هل يتصرف بما تصرف به الإمام زين العابدين(ع) أم يكون له موقف آخر… أنا أعتقد أنه سيكون له موقف آخر.. واترك لكم تخيل صورة مثل هذا الموقف… فأي حلم هو هذا الحلم وأي سمو هو هذا السمو وأي إحسان هو هذا الإحسان.

 

وموقف آخر مع هشام بن إسماعيل، وكان هشام واليا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وهو من أركان بني أمية، وكان معروفا بعدائه للإمام زين العابدين(ع) ولأهل البيت(ع)… وتذكر السيرة أنه بعد موت عبد الملك تولى ولده الوليد الخلافة، فعزل الوليد هشاماً بسبب خلاف شخصي معه، وقرر أن يوقفه للناس ليقتصوا منه ويفعلون به ما يشاؤون، وكان هشام يقول حينها أنا لا أخشى أحداً سوى زين العابدين لكثرة ما ارتكبه بحقه، ولكن الإمام لم يقل حينها ما نقول حان وقت الاقتصاص والثأر، بل طلب من أصحابه أن لا يتعرضوا له بالسوء، فلما وصل إليه قال له: "انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منا، ومن كل من يطيعنا". فنادى هشام و هو يستمع إلى هذا المنطق، بأعلى صوته: "الله اعلم حيث يجعل رسالته"..

 

وقد صور هذا المشهد أحد الشعراء حين قال:

ملكنا فكان العفو منا سجية****  فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا **** وكل إناء بالذي فيه ينضح.

 

وموقف آخر يمثل القمة في التجاوز والإحسان، وهو الذي جرى مع مروان بن الحكم، ومروان هذا كان معروفاً بعدائه الشديد لأهل البيت وغلظته عليهم، فهو من أوائل من خرجوا لحرب الجمل وبعدها في صفين، وكان من المحرضين على قتال علي(ع)، وهو من قال لوالي المدينة: "إن لم يبايع الحسين يزيد فاضرب عنقه"، مروان هذا حين ثارت المدينة على بني أمية، وقرر أهلها إخراج بني أمية منها وكان هو على رأسهم، فتش حينها عمن يدع عنده عائلته وحاول لدى الكثيرين، ولم يقبل أحد بذلك حتى الذين كانوا من خواصه والمقربين منه… الكل تنصل خوفاً من أن يتلبس بالقرب من مروان بن الحكم ولا سيما أن عائلته كبيرة. لم يجد حينها سوى الإمام زين العابدين(ع) من يقبل ذلك ويقول له "عائلتك مع عائلتي وحرمك مع حرمي" ثم غادر مروان..

 

تقول إحدى بنات مروان عن تلك الفترة من إقامتهم عند الإمام زين العابدين(ع): ما وجدنا من الرعاية عند أبينا ما وجدناه عند الإمام..

ولعل الموقف الأبرز للإمام في هذا المجال تمثل في الدعاء الذي عُرف بدعاء "أهل الثغور" فقد دعا به الإمام(ع) للجيش الأموي بالسلامة والنصر على الأعداء، رغم أن هذا الجيش هو تسبب بكل ما حدث في كربلاء لأبيه وأخوته وأعمامه وأولاد عمه ولأصحاب أبيه ولما جرى له وللنساء، تجاوز كل ذلك لحفظ ثغور المسلمين…

 

أيها الأحبة:

لقد أراد الإمام(ع) من خلال مواقفه أن يعزز قيمة الإحسان إلى الآخرين.. هذه القيمة التي يحبها الله ويحب من يقوم بها.. أياً كان هذا الإحسان وهو جعلها وسيلة لبلوغ الموضع المميز عندما قال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}..

وقال: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}..

وقال: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}..

 

ولا يتوقف الإحسان هذا عند الأصدقاء أو الأحبة أو ممن يحسنون إليه، بل يترقى للذين أساءوا إليه وعادوا.. وهذا ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}..

 

فالإحسان في الإسلام إلى الذين أساؤوا هو تعبير صادق عن عمق الإيمان، وهو ارتقاء في سلم الإنسانية ولا يبلغها {… إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.. وبالإحسان يملك الإنسان قلوب الناس ويحول الأعداء إلى أصدقاء.. وقد رأينا في سيرة الإمام زين العابدين(ع) شواهد على ذلك..

 

وقد قالها الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُم * * * فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

 

وهو تخلق بأخلاق الذين وصفهم الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: "تتحبب إلينا بالنعم، ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل، وشرنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك، أن تحوطنا بنعمك وتتفضل علينا بآلائك".

 

وبالإحسان يبلغ الإنسان ما وعد به الله عندما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}..

وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}..

 

وقد قال رسول الله(ص): "أَلا أخبركم بخير خلائقِ الدنيا والآخرة العَفْو عمّن ظلمك وتصلُ من قطعكَ والإحسانُ إلى من أساءَ إليك وإعطاء من حرمك".

 

إنه منطق نريد له أن يتعمم على كل المستويات، وهو طريق للعزيز لأن العزيز من ينتصر على انفعالاته لا الذي يستجيب لها..

 

أيها الأحبة …

إن مسؤوليتنا أن نقتلع جذور الشر من قلوب الآخرين.. وقد قالها علي(ع): "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك".. ولا يمكن أن نقتلعه بردود الأفعال السلبية بل من خلال منطق الإمام زين العابدين الذي هو منطق القرآن ومنطق الرسول… فلنجرب ذلك، وبالطبع سننجح لنحول أعداءنا إلى أصدقاء، ولنخفف الكثير من توتراتنا..

 

وهذا ما كان يردده الإمام زين العابدين(ع) بين يدي ربه: "وَسَدِّدْنِي لاِنْ أعَـارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْـحِ، وَأَجْـزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ وأُخَـالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَـةِ…."

 

بهذا المنطق وحده نؤكد فعلاً صدق الولاء لأهل البيت(ع).. هم لا يريدون منا إلا ذلك.. وأن نعيش الإسلام في حياتنا:

" أفيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول أحبّ علياً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً"..

 

جعلنا الله من الموالين قولاُ وفعلاً وسلوكاً.

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام زين العابدين (ع) أحد أصحابه في ليلة باردة ممطرة، وكان يمشي (ع) حاملاً على ظهره الدقيق والحطب، فقال له: "يا ابن رسول الله، ما هذا؟"، فقال الإمام: "أريد سفراً أعدّ له زاداً، وأحمله إلى موضع حريز". عندها، قال له الصحابي: "فهذا غلامي يحمله عنك"، فأبى الإمام، فقال له: "أنا أحمله عنك، فإني أرفّعك عن حمله". فقال علي بن الحسين: "لكنّي لا أرفّع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لما مضيت لحاجتك وتركتني"، فانصرف عنه. وبعد أيام، قال له: "يا بن رسول الله، لستُ أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً"، فقال الإمام (ع): "بلى يا زهري، ليس ما ظننت، ولكنه الموت، وله كنت أستعدّ، إنما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل الندى والخير".

 

أيها الأحبة،

لقد حدَّد لنا الإمام من خلال وصيّته السبيل للاستعداد للموت، فلا يكفي، كما يعتقد الكثيرون، أن نقضي أوقاتنا بالعبادة، ونعتبر أننا قمنا بما علينا إن أدَّينا ذلك.. إنّ الاستعداد يتمّ عندما نتجنّب معاصي الله ونتقيها.. وإن حصل ذلك منا، فسرعان ما نستغفر الله منها، وعندما نبذل الخير، بأن يفيض الخير منا، والخير ليس مالاً بالضرورة، فقد يكون كلمة طيبة، أو حلّ مشكلة لإنسان.. وقد يكون بالإصلاح بين الناس، وردم هوة الشقاق بينهم.. وهو يتحقق بالتعاون في وجه الفساد أو الانحراف أو الظلم أو الاستكبار الذي يسيء إلى الاستقرار والأمن والدين.. لذا، علينا أن نبادر في خطوات حثيثة إلى السير في عمل الصالحات.. فقد ورد في الحديث: "نفس المرء خطاه إلى أجله"، حتى نبلغ بذلك شاطئ الأمان، يوم نلقى الله، فيقال لنا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}.. وحتى نواجه التحديات.

 

لبنان

 

والبداية من القانون الانتخابي، الذي لا يزال الهاجس الأول للبنانيين، لكونه يساهم في عودتهم إلى المشاركة في الحياة السياسية، وفي اختيار من يمثلونهم في المجلس النيابي، بعد كل التمديدات التي حصلت، والتي أفقدتهم دورهم، وبعد أن بات واضحاً لديهم الآثار السلبية التي ستترتب على عدم إقرار قانون جديد، على المستويات السياسية والاقتصادية والنقدية، وفي كل المؤسسات، لو حصل الفراغ، إذا سقط خيار التمديد، ولم يعد ثمة مجال للعودة إلى الستين..

 

من هنا، ورأفة بلبنان واللبنانيين، نعيد التأكيد على القوى السياسية بالإسراع لإنجاز الحل التوافقي الذي أكدت الوقائع السابقة أن لا حل بدونه.. فهذا البلد بني في أساسه على التوافق الذي يحلو للبعض أن يسميه "الشراكة"، وهو الذي سيستمر عليه، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالقانون الانتخابي، نظراً إلى أثر هذا القانون في التوازن الطائفي، من خلال القوى التي يمثلها.. وهذا هو ما حرصنا على أن نؤكده دائماً.. ولذلك، كنا نقول لكل هذه القوى أن لا مجال في هذا البلد لأن يخيط كل منكم القانون الذي يريد، بل لا بدّ من أن تخيطوه مع الآخرين، وأن يكون محط توافق الجميع..

 

وهذا لا يعني أننا نرى هذا المبدأ دائماً، أو أننا نعتبره الحلّ الأمثل، فلا يمكن أن تبنى مؤسسة أو بيت على التوافق دائماً.. في ظل تناقض الآراء والمصالح.. فكيف بالوطن المتنوّع في طوائفه ومذاهبه ومواقعه السياسية؟! وقد أدى ذلك سابقاً، وسيؤدي، إلى شلّ البلد والدولة عند كل استحقاق داخلي أو وطني، لكونه يعطي لكل موقع سياسي تمثيل طائفته، ولكلّ طائفة حق الفيتو، وما أكثر الفيتوات التي تحدث عند ذلك! لكننا سنبقى نقول إنه يبقى أمراً يفرضه الواقع في لبنان، إلى أن يقرّر اللبنانيون أن يبنوا وطناً كبقية الأوطان.. فلبنان لا يزال شركة طوائف، ولم يتفق اللبنانيون على تحويله إلى وطن..

 

ونبقى في لبنان، لنشارك أهلنا في البقاع وقفتهم في مواجهة التفلّت الأمني الذي يعانون تبعاته في هذه المنطقة، والذي ينعكس بطبيعته على بقية المناطق اللبنانية… ومثل هذه الوقفة هو تأكيد إضافي على ما نعرفه من أهل هذه المنطقة في رفضهم لكل هذه الممارسات، فهي لا تنتمي إلى قيمهم ولا إلى كلّ تاريخهم، وهم الذين كانوا حاضرين في كل مواقع التضحية من أجل هذا الوطن.. ونحن في ذلك ندعو معهم الدّولة إلى أن تحزم أمرها في مواجهة القلّة الخارجة على القانون؛ هؤلاء الذين يشوهون صورة هذه المنطقة ويربكونها، على أن تتعاون كلّ الفعاليات السّياسية وغير السياسية مع الدولة في هذا الأمر.. ولعلّ ما جرى من تحرك شاركت فيه كل هذه القوى والفعاليات، هو إشارة واضحة إلى رفض كل القوى السياسية وغير السياسية لذلك الواقع..

 

وفي هذا الإطار، ننبّه إلى خطورة استسهال استعمال السلاح والقتل، الذي بات آفة تهدد استقرار المجتمع والوطن وأمانه، وتسيء إلى صورته، حيث أصبح القتل حالة عادية أو حادثة عابرة، لا يتوقف عندها أحد، ويرتكب لأبسط الأسباب، كخلاف على موقف سيارة أو أفضيلة مرور وغير ذلك..

 

إنَّ تفاقم هذه الظاهرة الَّتي يمكن أن نعيدها إلى عدم وجود العقوبات الرادعة، أو تردي الواقع الاقتصادي والاجتماعي، أو فوضى السلاح، أو تفشي المخدرات، أو ظاهرة الثأر، يتطلب استنفاراً على الصعد الأمنية والتربوية والاجتماعية والدينية.. لمعالجة هذه الأسباب، وإعادة احترام الدم، وتأكيد جسامة الأمر، سواء في الدنيا والآخرة.. فمن قتل نفساً، أي نفس، فكأنما قتل الناس جميعاً.

 

فلسطين

وإلى فلسطين المحتلة، حيث يواصل الأسرى في سجون الاحتلال إضرابهم عن الطعام منذ حوالى عشرين يوماً، من دون أن نلحظ أي تحرك داعم لهم وموازٍ لحركتهم في العالمين العربي والإسلامي، سوى بمبادرات فردية أو محدودة، ومن دون أن نرى تضامناً حقيقياً من منظمات حقوق الإنسان، ما يشير إلى مدى الانحدار الَّذي وصل إليه الواقع على المستوى الإنساني، والانكفاء عن الاهتمام بما يجري في فلسطين، في الوقت الذي لا يطالب المضربون عن الطعام بشيء مصيري، بل بأن تراعى حقوقهم الطبيعية في اللقاء بأهلهم، أو ما يتعلق بظروف أسرهم..

 

وهنا، لا بد من أن ننوه بوحدة الشعب الفلسطيني في التعامل مع هذه القضية، ونأمل تعزيز هذه الوحدة في كل القضايا، وبكل المواقف التي انطلقت لتشارك الأسرى معاناتهم.. في الوقت الذي ندعو إلى المزيد من التفاعل العربي والإسلامي والديني والإنساني، حتى لا يتفرد الاحتلال بهم ويزيد معاناتهم..

 

ونبقى في فلسطين، حيث صوَّتت منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة "الأونيسكو" بنفي سيادة العدو على مدينة القدس، واعتبارها "مدينة محتلة".. الأمر الذي أغضب رئيس وزراء العدو، ودفعه إلى القول إن القدس مدينة مقدسة، وإن إسرائيل تكفر بالأونيسكو وهرطقاتها..

 

إننا ننظر بإيجابية إلى مثل هذه القرارات، وإن كنا نراها منقوصة.. فكلّ فلسطين محتلة، وقد لا نرى مفاعيل لها على الأرض، لكنها تبقى إضاءة في الطريق الطويل، لكونها تعطي حقاً لهذا الشعب الذي لا تتوقف معاناته….

 

 

ونبقى في فلسطين، لنؤكّد على كل القيادات الفلسطينية ضرورة التوحد في ما بينها، لا لتقديم التنازلات، كما يدعو الرئيس الأميركي، بل للوقوف معاً في مواجهة غطرسة هذا الكيان، الذي لن يعطي أية حقوق للشعب الفلسطيني.. فهذا الشعب لن يحصل على حقوقه إلا بوحدته وثباته على حقه، الذي لن يضيع ما دام يطالب به، ولا يتنازل عن حبة تراب فيه..

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 9شعبان 1438هـ الموافق :  5أيار2017م

Leave A Reply