الاعتراف بالخطأ فضيلة

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

ورد في قصص السيرة خبر عن خطأ ارتكبه أحد الصحابة وكان اسمه أبو لبابة وقد أرسله رسول الله الى يهود بني قريظة المحاصرين يومها من المسلمين بسبب تآمرهم في معركة الاحزاب، ليبحث معهم القرار الذي عليهم اتخاذه الاستسلام او القتال، وكان لأبي لبابة معهم من قبل علاقة صداقة وتجارة.

فلما جاءهم وجلس إليهم راح يحدثهم وتمادى في إخبارهم حتى سرَّب إليهم أجواء حوارات المسلمين الداخلية والحكم الذي كان رسول الله سيتخذه فيهم. المهم انه وفي هذه اللحظة وكما قال أبو لبابة نفسه فيما بعد عن تورّطه: ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد أخطأت وخنت الله ورسوله(ص) وخنت أمانتي‏. ‏  

 

تبنى أبو لبابة خطأه. حمله ماثلاً أمام عينيه وانطلق إلى المسجد حيث يجتمع المسلمون. كان أبو لبابة قادراً أن يُبقي هذا الأمر سراً بينه وبين ربه، وأن يتوب إليه أو أن يذهب إلى رسول الله وحده ويسوي الأمر معه، لكنه أراد الاعتراف بخطئه أمام كل المسلمين لكونه أخطأ معهم ومس بمصالحهم العليا. وهناك ربط نفسه بأحد أعمدة المسجد وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أتيقن من توبة ربي علي…ولذلك هناك أسطوانة في الروضة الشريفة في مسجد النبي(ص)  اسمها اسطوانة التوبة ،هي اسطوانة أبي لبابة.

واستمر أبو لبابة على هذه الحال لا يأكل ولا يشرب إلا اليسير من الطعام والشراب حتى نزلت الآية التي بشرته بتوبة الله عليه: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

   وفي مقابل هذه الآية التي نزلت في أبو لبابة، فإن آية أخرى وردت تندد بالمسلمين الذين تنكروا لأخطائهم في معركة أحد والتي أدت إلى هزيمتهم بعد انتصارهم في أوّلها وكانوا يضعون فيها اللوم على الآخرين. {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} … حتى راح البعض ينسب الهزيمة إلى رسول الله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}.

   آيات رهيبة بالفعل على المستوى التربوي والنفسي، القرآن كان واضحاً: الخطأ يجب أن يعترف به أصحابه، أن ينسبوه لأنفسهم،أن يقول المخطئ أمام من أخطأ معهم، انا أخطأت، أنا فشلت، أنا لم أراع هذا الأمر. وإلا دخل الانسان في التعمية على الناس والجمود على الأخطاء والتهلكة. 

   وقصة خطأ ابو لبابة مليئة بالدروس والعبر، نستحضرها اليوم ليس لأن هناك الكثير من الاخطاء الفادحة التي تُرتَكب في واقعنا، بل لأن هناك ثقافة مستشرية تمارس بشدة تتمثل في التنكر لهذه الأخطاء وكأن أشباحا يقومون بها. فعلى الرغم من ان الانسان يدرك انه ليس معصوماً، وأن كل ابن ادم خطّأ إلا أنه في الواقع تظل علاقته بالخطأ علاقة ملتبسة وغير سليمة ولا صحية. فهو يتعامل كأنه معصوم، وكأن الخطأ يقوم به غيره لا هو. هذا نجده في كل الواقع. صعب أن تجد أحداً يخطأ !

أيها الأحبة:

كم نحتاج اليوم في واقعنا إلى تعزيز ثقافة الاعتراف بالخطأ والاعتذار منه. كي تستقيم الحياة ويدرك كل مسؤوليته، بدءا من اصحاب القرار وصولا إلى المديرين والمسؤولين، حيث الصورة الشائعة ان الحسنات والايجابيات يتبناها أؤلئك أما الاخطاء فيتيمة، لأن مرتكبيها يسارعون في وضع التهمة على أحد ما غيرهم،وكما يقال: دائماً الحق ع الطليان..هذا الموظف كان يجب ان يذكّرني، الحق على الأخبار او على الوضع الاقتصادي، الحق على الطقس..الحق على هذه الدولة أو تلك ولائحة الأعذار دائماً جاهزة لابعاد شبح الخطأ عن أنفسهم. ولذلك تستمر الأخطاء وتزيد.

 

وفي البيت يحصل الشيء نفسه، ان أخطأ الزوج فمن السهل ان يبحث في (الحق على من). فحتى لو تعثر يقول الحق على زوجته او أولاده لأنهم (عموا على قلبه) وكذلك الزوجة ان أضاعت شيئاً او قصّرت تسرع في لوم الاولاد. مع أن الامر بسيط ويمكن لكل واحد أن يقول: الحق علي لم انتبه هذه المرة وعلي الالتفات الى ذلك مرة أخرى، من دون البحث عن شماعة لتعليق أخطائنا عليها. وخاصة امام الاولاد الذين سيكتسبون هذا السلوك من أهلهم. كم هو جميل أن يعترف الأبن أمام ابواه.

ان التنكر للأخطاء ايها الأحبة، يعود في جزء كبير منه الى التربية الخاطئة التي لا تعترف لك بأنه ممكن أن تخطئ، بل تعتبر ان عليك ألا تخطئ أبداً، أن لا تفشل أبداً،أن تخسر أبداً، أن تبقى مصراً. بل تعلمك أساليب التنكر للأخطاء التي ترتكبها يداك.

يجب ان نعلم اولادنا ومنذ نعومة أظفارهم، أن الخطأ وارد، وندربهم على كيفية التعامل معه وبعدم تكراره أو الاصرار عليه. وعلينا أن نكون جادين ودقيقين، فلا نسمح لأولادنا أن يقولوا مثلاً انكسر القلم او الزجاج (صفة المجهول بل صفة المعلوم) بل ان نعودهم ليقولوا "أنا كسرت" وعلى الاهل بعدها أن ان يشرحوا الأمر والعواقب، وهكذا يعلمونهم درساً في تقبل الخطأ وفي كيفية تفاديه. والتعلم منه في كل مرة.

 

والله سبحانه وتعالى أراد منا ان نتأدب مع الناس والمخلوقات من عباده كما نتأدب معه: فالله كما قرن شكره بشكر الناس: "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق".. وقرن رحمته برحمة الناس " مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" كذلك الأمر في ما يتعلق بالاعتذار والاعتراف بالخطأ امام الله، فهذا ينسحب على الاعتراف بالخطأ مع الناس، وأكثر من هذا فقد جعل الله الاعتذار للناس، وطلب المسامحة منهم أساسا للعفو الرباني. ويمكن تلمس ذلك بالعديد من الشواهد، فالتوبة من الغيبة والنميمة مثلاً أساسها المسامحة من الناس وكذلك السرقة والقتل. وفي حال لم يتوفر العفو من الناس نتيجة حساسية الموقف أو وفاة من أسيء اليهم عندها فتح الله مجال الإعتذار إليه.وبالمناسبة فإن أدعيتنا عمادها الاعتراف بالاخطاء والذنوب، وهناك دعاء عنوانه الاعتراف بالتقصير أمام العباد ومما ورد فيه: "أَللّهُمَّ إِنّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتي فَلَمْ أَنْصُرْهُ…وَمِنْ مُسيء اعْتَذَرَ إِلَىَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ،" 

 

وهذه الفكرة عادة ما تغيب عن ذهن الناس والمؤمنين تحديداً، فهناك وعلى طريقة التسويف والتأجيل من يضع كافة ذنوبه في كفة واحدة، يضعها بين يدي الله ليتوب عليها، متناسيا أن الله برحمته قد يتجاوز عن حقه ولكنه لا يضيِّع حقوق الناس بعضهم على بعض، مما هو في ذمة فلان من تقصير أو ظلم أو قرار ظاهر أو باطن بحق الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات أو الأمة، هذه لله فيها نظام وحساب دقيق، فها هو رسول الله نفسه مع كل عظمته وعلاقته مع ربه وهو حبيبه ومصطفاه  رغم كل هذا تراه قبل ان تدنو منه الوفاة يبحث بين الناس عمن أساء اليهم او صدر منه خطأ ما تجاههم، فكأنه يقول لهم: الآن تعالوا لنتصافى وأخطائي أنا أتحملها ولا تتركوا الحساب بيننا لما بعد الموت. قالها النبي للمسلمين. لأنه يعرف ان حقوق العباد لا تضيع حتى ولو كانت حقوق الله واصلة. يومها قام من يقول له انه مرة اصابه في كتفه بالعصا التي كان يلوح بها على دابته. الرسول هنا لم يقل له الحق ليس على بل عليك، لأنك ظهرت في طريقي، ولم يقل الحق على الدابة او على الدرب او على أي أحد… بل على الفور، ومن دون تردد قال للرجل: انا جاهز وكشف له عن كتفه ليقتص منه، ولكن الرجل وأمام ذهول المسلمين اغتنمها فرصة ليقبّل الجسد الشريف.

 

يا له من درس!! النبي ليس فقط يتقبل ان يُنسب الخطأ اليه بل يبادر الى تصحيح ذلك. (أما في مجتمعاتنا فإذا ما واجهت المكابر، وحشرته بالدليل على خطئه يقول لك: انا غلطت طيب بلط البحر) (اللي بيطلع بإيدك اعمله) وما إلى هناك من تعبيرات تعكس اشكالية كبرى في الاعتراف باخطائنا وتمنعنا ان نتعلم منها وبالتالي ان نتطور.واليوم أيها الأحبة نحن بأمس الحاجة إلى التعلم من رسول الله ولنا فيه أسوة وقدوة حسنة.

 

نحن بحاجة إلى أن يعترف المدير بأخطائه أمام العمال لديه، ولن ينتقص منه إن فعل. ونحن بحاجة إلى أن يعترف الزوجان بأخطائهما تجاه بعضهما بعض، فكم خربت بيوت وشردت أسر بسبب عدم الاعتراف. وقد كان يكفي أن يقول أحدهما للآخر إني أخطأت، وكم من النزاعات حدثت وتحدث بين الأحبة، بين الجيران والأرحام بسبب عدم الإقرار بارتكاب خطأ، وكم تفشل مؤسسات وإدارات بسبب عدم اعتراف مسؤوليها بأخطائهم.

 

إننا بحاجة إلى السياسي وكذلك المسؤول والداعي الى الله والعامل في سبيله كل منهم أن يقف ليعترف بأخطائه أمام الناس ولا يكابر، حتى لا تقع الأمة في أخطاء توارثتها الأجيال فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. إن الإنسان الشجاع والقوي والناجح هو من يعترف بأخطائه ليبني عليها نجاحاته في المستقبل. فالذي يخشى من الاعتراف بأخطائه لأنه يخشى من قلة ثقة الناس به هو ضعيف لأنه يستمد قوته من جهل الآخرين وهذه ليست قوة.

لنتعود أن نعترف بأخطائنا اليوم… لعل ذلك يساعدنا على عدم الوقوع في الفشل الكبير غداً، وخصوصاً عندما تقف كل نفس لتجادل عن نفسها: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}. 

ما أجمل كلمة عفواً وأعتذر. فلها وقع السحر في النفوس. فهي التي تلين القلوب وتمحو الأخطاء وتطفئ النيران في قلوب الآخرين وعند الله، وهو الذي أعلن بكل وضوح أنه يحب التوابين النادمين المعترفين المعتذرين، ويحب المتطهرين، الذين ينظفون قلوبهم وحياتهم من الأخطاء بالقدر الذي ينظفونها في حياة الآخرين.

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، ولزوم أمره، وعمارة قلوبنا بذكره ومحبَّته، وهذا يتحقَّق عندما نستهدي بالأجواء الروحيَّة والإيمانيَّة الَّتي ننعم بها في هذا الشّهر؛ شهر شعبان. ولنا في ذلك أسوة برسول الله(ص)، حيث كان يدأب على صيامه وقيامه، وعلى الذكر والاستغفار والصَّدقة وقراءة القرآن. ولنا أسوة بعليّ أمير المؤمنين(ع)، الَّذي كان يناجي ربه في هذا الشَّهر بالمناجاة الشَّعبانيَّة، ونذكر بعض فقراتها المفعمة بالحبّ لله والأمل به:

"إِلهِي، لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أَيَّامَ حَياتِي، فَلاَ تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَماتِي، إِلهِي كَيْفَ آيَسُ مِنْ حُسْنِ نَظَرِكَ لِي بَعْدَ مَماتِي، وَأَنْتَ لَمْ تُوَلِّنِي إِلاَّ الْجَمِيلَ فِي حَياتِي.. إِلهِي، إِنْ أَخَذْتَنِي بِجُرْمِي أَخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ، وَإِنْ أَخَذْتَنِي بِذُنُوبِي أَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ، وَإِنْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ أَعْلَمْتُ أَهْلَها أَنِّي أُحِبُّكَ.. إِلهِي فَلَكَ أَسْأَلُ وَإِلَيْكَ أَبْتَهِلُ وَأَرْغَبُ…".

علينا أن نتأسّى بمن نستعيد ذكرى ولادتهم في هذا الشّهر، أن نتأسّى بسيّد شباب أهل الجنة وسيّد الشّهداء، الإمام الحسين(ع)، وأن نتأسّى بالعباس بن علي(ع)، أنموذج التَّضحية والإباء والإيثار والفداء والشَّهامة والرجولة، أن نتأسّى بالإمام زين العابدين، إمام العفو والتسامح والعبادة، وبالإمام المهدي المنتظر(عج) في حمل راية العدل للحياة كلّها.

أيها الأحبة، لنغتنِ من نفحات هذا الشّهر، من أجوائه الروحيَّة، ومن تربيته، حتى نكون أكثر وعياً وصلابةً، وأكثر قدرةً على مواجهة التحديات.

ونعود إلى ما جرى في الأسبوع الماضي من أحداث:

 

اليمن

والبداية من اليمن، التي عادت إليها الحرب لتستهدف بشرها وحجرها، بعد انتهاء الهدنة التي كنا نتمنى استمرارها مع كل اليمنيين، والبدء بحوار جامع وجاد؛ حوار يُخرِج اليمن من معاناته، حوار لا يستثني أحداً، ويراعي متطلبات اليمنيين كافة، ويزيل هواجسهم، حوار بعيد عن سياسة الاستقواء والغلبة، حوار يشعر معه إنسان اليمن بحرية بلده واستقلاله، من دون أن يكون حديقة خلفية لأحد.. حوار يشعر معه اليمنيون بالأمان من جيرانهم.

إنَّنا نأمل أن تساهم الخطوات الجارية في الوصول إلى هذا الحوار، من دون لعبة التمييع أو الدخول في شروط غير واقعية..

لقد آن الأوان للجميع أن يعوا أن لا حلّ في اليمن إلا بالحوار المنتج، وليس أي حوار، وكل ما عدا ذلك سيكون مزيداً من التدمير لبنية هذا البلد، ومزيداً من الأحقاد التي تتوارثها الأجيال.. وقد لا تنطفئ نارها…

 

العراق

وإلى العراق، حيث دخل هذا البلد في نفق جديد، بعد دخول داعش إلى الرّمادي؛ إحدى مدنه الرئيسة، مستفيداً من ضعف قدرات الجيش العراقي وإمكاناته، وعدم وجود التَّسليح الكافي، فضلاً عن الانقسام الداخليّ، وعدم جدية التحالف الدوليّ في مدّ يد العون إلى هذا البلد، أو في حربه على الإرهاب.

إنّنا أمام هذا الواقع الخطير، بما له من تداعيات على وحدة العراق واستقرار محيطه، ندعو مجدداً كلّ العراقيين إلى الوقوف صفاً واحداً لمواجهة أجندة هذا التنظيم، التي هي بالطبع ليست أجندة العراق والعراقيين وكلّ من يحرص على وحدته واستقراره…

إننا نعي مدى حاجة العراق إلى إصلاحات، لشعور البعض بالغبن، أو للاختلال في التوازن، أو لوجود بعض المظالم، ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذلك عائقاً أمام العمل المشترك من أجل تخليص العراق من هذه القوى التدميريّة، التي تسهل تنفيذ مخططات الآخرين، والتي لن تكون لحساب أي مكوّن من مكونات الشعب العراقي، بل على حساب العراق وأهله.

والحديث عن العراق بات يستدعي الحديث عن سوريا، حيث أصبح المُستهْدَف واحداً في ظل سعي داعش إلى توسعة منطقة سيطرته من العراق إلى الأراضي السورية، لإيجاد كيان خاص به، باتت ملامحه ترسم على الأرض، ونخشى أن يكون مقدمة لرسم خرائط جديدة للمنطقة، تحمل العنف والويلات لها على إيقاع الاستنزاف المستمر لأوطاننا وأمّتنا.

 

لبنان

ووسط كلّ هذه الغمامة السّوداء الّتي تكاد تلفّ المنطقة، نستعيد الذكرى الخامسة عشرة للتحرير؛ هذه الذكرى التي تعيدنا إلى أمجاد عاشها اللبنانيون يوم استطاعوا بوحدتهم أن يدحروا العدو الصهيوني من أرضهم، وهو يجرّ أذيال الهزيمة والخيبة.

لقد أظهرت هذه الذكرى جلياً مدى القدرات والإمكانات التي يمتلكها اللبنانيون عندما تتوحّد جهودهم وطاقاتهم في مواجهة أعدائهم، وعندما يقررون أن يقفوا صفاً واحداً متراصاً، جيشاً وشعباً ومقاومةً.

إننا مدعوون في هذه الذكرى إلى أن نستعيد هذه الوحدة، أن نرمّمها بعدما تصدعت نتيجة ما يجري من أحداث في الداخل، أو ما يأتي من الخارج، لنواجه هذا العدو الذي لا يزال جنرالاته السياسيون والعسكريون يمنون أنفسهم بالثأر لهزيمتهم في لبنان في العام 2000، والتي تكرَّرت في العام 2006.

 

إنّنا نريد تكريس هذه الوحدة في وجه العابثين بأمن هذا الوطن عند حدوده الشَّرقيَّة، حيث التحدي الجديد الذي يستهدف اللبنانيين بشتى طوائفهم ومذاهبهم واتجاهاتهم.

إنّ مواجهة هذا الخطر الجديد لا يمكن أن تتمّ بطائفة أو مذهب أو موقع سياسيّ معيّن، بل بموقف جامع من كلّ اللبنانيّين، حتى لا تأخذ بُعدها المذهبيّ والطّائفيّ، وخصوصاً أن هناك من يسعى لإعطائها هذا البعد. ومن هنا، فإنّنا نضمّ صوتنا إلى كلّ الأصوات التي تدعو إلى أخذ المبادرة في علاج هذا الخطر من قِبَل الدولة اللبنانيّة، بالتنسيق مع كلّ القوى الفاعلة، بما يعيد الاستقرار والأمن إلى الربوع اللبنانية كافة، ولا سيما البقاع العزيز.

 

إنَّ اللبنانيين أحوج ما يكونون في هذه المرحلة إلى تعزيز مناخات الثقة والتواصل فيما بينهم، والخروج من كلّ الحسابات الخاصة والصَّغيرة الَّتي يستغرق فيها النّادي السّياسيّ على حساب الوطن، وتجميد كل الكلمات والتصريحات والآراء والقضايا والطروحات التي تثير الحساسيات وتعبث بالهواجس، حتى نكون قادرين على مواجهة العواصف التي تحيط بنا من كلّ مكان، وهي ليست عادية، بل هي أخطر مما نتصوّر.

 

إنَّ على المسؤولين أن يستفيدوا من انشغال العالم عنهم، وبقاء لبنان حتى الآن خارج الصراع، لترتيب بيتهم الداخليّ لا العبث فيه وجعل الفراغ هو طابع الحياة اللبنانية؛ الفراغ في التَّشريع، وفي الموازنة، وفي التعيينات في المواقع الحسّاسة، والفراغ الاقتصاديّ والإنمائيّ.

وفي قضيَّة العسكريين المخطوفين، لا بدّ لنا من أن نثمِّن الجهود التي تبذل من قبل الدولة اللبنانيَّة، والَّتي نأمل أن تفضي إلى تحريرهم وإعادتهم إلى أهلهم.

 

وأخيراً، لا بدَّ من أن نتوقَّف عند أجواء العنف الَّذي نعانيه، والَّذي رأينا تداعياته في أكثر من جريمة أسريَّة، كان آخرها الجريمة التي حصلت منذ مدة قصيرة، لنشير إلى خطورة هذه الجرائم، وضرورة القيام بخطوات ميدانية لمعالجتها، فهي لا تعالج فقط بقوانين رادعة أو عقوبات، على أهميتها، بقدر ما نحتاج إلى تضافر جهود العلماء والمربين والتربويين وعلماء النفس، لدراسة أسلوب مكافحتها والعمل لمعالجتها…

وللأسف، فقد بات الحديث عن المرأة يقترن في كلّ مرة بالحديث عن الدين، وكأنَّ الدّين هو سبب ما تعانيه المرأة! فإذا كان كذلك، فلماذا تقتل 23 امرأة كلّ أسبوع في أميركا، بسبب التعنيف الأسري.

إنّ الأمر يتعلَّق بفقدان الإنسان إنسانيَّته، وفقدان الرحمة في القلوب، وفقدان العلاقة الأسرية لأسسها المتمثّلة بالمودة والرحمة والمعروف، فهي ما نحتاج إليه للوصول إلى نتيجة حاسمة وعلاج جادّ.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 4شعبان 1436هـ الموافق : 22 أيار 2015م

 

 

Leave A Reply