الرَّشوة طريقٌ لفساد المجتمعات

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. صدق الله العظيم.

 

عندما أطلق الإسلام دعوته، جعل من أولى أولويّاته محاربة الفساد بكلِّ أشكاله، وهذا ما نصّ عليه القرآن الكريم في أكثر من آية: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وقد توَّج ذلك بقوله:  {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

 

ظاهرة الرَّشوة!

ومن أبرز مظاهر الفساد الّتي ابتليت بها المجتمعات والأوطان، ظاهرة الرَّشوة. والرّشوة تعني بذل مالٍ أو منفعة من أجل منع حقّ، أو تثبيت باطل، أو تجاوز قانون أو نظام، أو للحصول على مال أو فرصة عمل بغير وجه حقّ، وقد تكون لتغيير قناعة وتبديلها. وقد تتدخَّل في القرارات السياسية أو الاقتصادية أو الإدارية أو الدينيّة، وفي التشريعات والقوانين. وهي لا تشمل من يبذل مالاً أو منفعةً من أجل تثبيت حقِّه، أو لمنع ظلم لحق به ممن يريدون الإساءة إليه، أو لتيسير أموره ومعاملاته، إن فرضت عليه الرَّشوة ممن لا يقومون بمسؤوليّتهم، أو ممّن يسوّفون في معاملات الناس كي يحصلوا عليها.

 

وهنا، قد نجيز دفع الرّشوة، ولكن بشرط أن يتوقَّف عليه تحصيل الحقوق ودفع الظّلم وتيسير المعاملات، ولكن هذا لا يعني أنّه يجوز للّذين يفرضون الرّشوة أخذها، لأنَّ من واجبهم إعطاء الحقّ ومنع الظّلم والقيام بمسؤوليّاتهم من دون مقابل.

 

ومن الواضح أنَّ هذه الآفة إن استشرت في المجتمع، وعلى مختلف المستويات، وأصبحت سمةً من سماته، فستؤدّي إلى المسّ بالعدالة، وتعطيل القوانين، وتزوير الحقائق، وضياع الحقوق، وستتسبَّب بإهدار المال العام، ووضع الإنسان غير المناسب في موقع القرار والمسؤوليّة، وإبعاد آخرين عن الموقع الّذي يستحقّونه، وتجعل من يملكون القدرة والنّفوذ هم من يتصدّرون مواقع القرار.

 

ومن ينزل إلى الواقع، يجد كم ساهمت الرَّشوة بإلحاق الأضرار العميقة بمصالح المجتمع، فهي من المسبّبات لتفشّي ظواهر كالمخدِّرات وتسويقها لتسميم العقول والنّفوس، أو تهريب أسلحة تساهم في إيقاد الفتن وإضرامها، أو تسويق الأدوية غير الصّالحة للعلاج، أو بناء جسور أو طرق عامّة أو أبنية غير مستوفية للشّروط، أو غير ذلك…

 

وعندما نتحدَّث عن الرشوة، فإنّ الرّشوة لا تقف عند تقديم المال من الرّاشي إلى المرتشي، وإن كان المال هو الأبرز فيها، فقد تكون بتقديم خدمة له أو تكريم، أو تحسين موقعه، أو حلّ مشكلة يعاني منها، أو تخليصه من ورطة وقع فيها، أو حتى بمديحٍ، كما يعمد البعض إلى كيل مديحٍ لمتنفّذٍ أو صاحب سلطة، حتى يحصل منه على ما يريد. ويزداد أمر الرَّشوة خطورةً وتفاقماً، إذا راح المرتشي يساوم الرَّاشي، وبدون حياءٍ وخجلٍ أو خوف، لتحقيق مبتغاه.

 

لماذا يرفضها الإسلام؟!

لقد كان الإسلام واضحاً وحاسماً في رفضه هذه الظّاهرة، واعتبارها من أكبر الكبائر، نظراً إلى آثارها وتداعياتها، وهو توجّه في تحذيره منها إلى الرّاشي؛ المعنيّ الأوّل بالرّشوة، والمسبِّب لها، وإلى المرتشي المقابل له، وإلى الوسيط الّذي يسعى بين الرّاشي والمرتشي. وقد برز ذلك في العديد من الآيات، ومنها الآية التي تلوناها، والتي جاء فيها: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ}. حيث حذَّرت هذه الآية من الرَّشوة، كونها، بأسلوبها وبنتائجها، أكلاً للمال الباطل، كما حثَّت هذه الآية الرّبانيّين وعلماء اليهود على الوقوف في وجه الذين يزوّرون الحقائق ويأكلون أموال الناس، ودعت إلى عدم إعطاء الأموال للحكّام استرضاءً لهم لينالوا ما لا يستحقّونه أو لظلم النّاس، وقد اعتبر ذلك من السّحت. والسّحت هو الشّيء الذي يلزم العار والهلاك بفعله، وقد سميت الرّشوة بالسّحت، لأنها تزيل الحسنات وتهلك فاعلها. وهذا ما تبيّنه الآية الكريمة: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}. وقد ندَّد الله سبحانه وتعالى باليهود لأنّهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}.

 

 

مصير المرتشين

وقد وردت نصوص كثيرة بيَّنت مصير المرتشين والرّاشين، حيث ورد في الحديث: "لعن الله الرَّاشي والمُرْتَشِي"، وفي حديثٍ آخر: "الرّاشي والمرتشي في النّار".

 

وفي الحديث: "إيّاكم والرَّشوة، فإنَّها محض الكفر، ولا يشمّ صاحب الرَّشوة ريح الجنَّة"، حيث بيَّنت هذه الأحاديث، أنّه لا يمكن أن يجتمع الإيمان والرّحمة الإلهيَّة والوصول إلى الجنّة مع الرّشوة، صغيرة كانت أو كبيرة.

 

ولذا، حذَّر الإمام علي(ع) مَن يصل إلى موقع القرار والمسؤوليّة من الوقوع فيها، فقال: "وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين، البخيل… ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع".

 

هل يقبل الحاكم الهديّة؟!

ولم يكتف الإسلام بالتَّشديد على منع الرَّشوة، بل سدَّ كلّ المنافذ التي قد تنفذ منها، وهو لذلك، منع الهديّة لمن هم في مواقع المسؤوليّة، وحرَّمها عليهم، كونها باباً لفسادهم، ولأنها تجعلهم أسرى أصحاب الهديّة. فعن رسول الله(ص)، أنّه أرسل رجلاً إلى إحدى المناطق، فلمّا رجع حاملاً أموالاً، قال: "هذا لكم وهذا لي". وهو يريد بذلك أنّ هذا المال جاءه بعنوان الهديّة. فقام رسول الله(ص) بالمسلمين خطيباً، فقال: "مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ، أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئاً، إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ ، إِمَّا بَعِير لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ".

 

وفي ذلك كلام لأمير المؤمنين(ع)، عندما جاءه من يقدِّم له هدية وهو في موقع المسؤوليّة، فنهره قائلاً: "أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟! أمختبط (اختلّ نظام إدراكك) أنت، أم ذو جنّة، أم تهجر (تهذي بما لا معنى له)؟!والله، لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت، وإنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى ولذّة لا تبقى؟! نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزَّلل، وبه نستعين".

 

وقد ورد في السّيرة، أنَّ رسول الله(ص) أرسل عبد الله بن رواحة إلى اليهود، من أجل تقدير ما يتوجَّب عليهم من حصَّةٍ لبيت المال، فجمعوا له حليّاً من حليّ نسائهم، وقالوا: هذا لك، وخفِّف عنّا وتجاوز في القسمة. فقال  عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود، فأمَّا ما عرضتم من الرّشوة فإنها سحت، وإنَّا لا نأكلها. فقالوا: بهذا قامت السّماوات والأرض.

 

إذاً، في منطق الإسلام، الهدايا التي تقدَّم الى الحكَّام والقضاة والموظّفين في الإدارات العامَّة والجمارك والمطارات وغير ذلك، لا يجوز أخذها، إلّا إذا أُعطِيت بعيداً من صفته كمسؤول، أو بعيداً من موقعه ووظيفته، ولأهداف مختلفة، وهذا يحتاج إلى تحقيق وتدقيق.

 

كيفيّة المعالجة

إنّ معالجة ظاهرة الرشوة تكون بمعالجة أسبابها، ويعود السّبب الأساس في انتشار الرَّشوة، إلى ضعف الوازع الديني والأخلاقيّ، والجشع والبخل، ويساعد على ذلك، غياب الأجهزة الرقابيّة، والفساد المستشري في المجتمع.

 

ومن هنا، فإنَّ علاج هذا المرض الخطير، يكون بتعزيز الرّقابة الإداريّة لمنع الرّشوة، ومحاسبة المرتشين ومقاطعتهم. ولكن ما ينبغي العمل له، هو أن يعي الرّاشي والمرتشي والوسيط بينهما، مدى الإضرار الّذي ينتج من عملهم، فهم يهدِّدون بذلك سلامة المجتمع وأمانه والعدالة فيه، كما أنَّ الارتشاء هوان لهم وسقوط وسوء خلق وإساءة إلى الأمانة، وعليهم أن يحسبوا لله حساباً في ذلك، فما يقومون به هو فساد، والله لا يحبّ الفساد، وهو توعّد الفاسدين بالهلاك، وقد دعاهم إذا كانوا يهدفون من ورائه إلى مال أو موقع أو خدمة، إلى أن يعلموا أنَّ الأمر بيده تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. والله لم يجعل الحرام طريقاً إلى تحصيل الرّزق وبلوغ الدّنيا. وهو لو حصل، لن يبارك لهم فيه، فقد ورد في الحديث: "ألا إنَّ الرّوح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها. فاتّقوا الله، وأجملوا في الطّلب، ولا يحملنّكم استبطاء شيءٍ من الرّزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإنَّ الله تبارك وتعالى قسَّم الأرزاق بين خلقه حلالاً، ولم يقسّمها حراماً، فمن اتّقى الله وصبر، أتاه الله برزقه من حلّه، ومن هتك حجاب السّتر وعجّل، فأخذه من غير حلّه، قصَّ به من رزقه الحلال، وحوسب عليه يوم القيامة".

 

وهذا واحد من أبواب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، الذي نسأل الله أن يوفّقنا له، حتى ننعم بالصّلاح والصالحين، ونتخلَّص من الفساد والمفسدين.

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي في هذا الشّهر؛ شهر رجب، بالإكثار من الاستغفار، فقد ورد عن رسول الله(ص): "رجب شهر الاستغفار لأمّتي، فأكثروا فيه الاستغفار".

 

ولكن، هل يكفي في الاستغفار الذّكر؟

 

يُروى أنَّ أمير المؤمنين (ع)، عندما سمع رجلاً بحضرته يقول: "أستغفر الله"، قال له: "أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستّة معانٍ: أوّلها النّدم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثّالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم، حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس أن تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السّحت (الرشوة أو أي مال حرام)، فتذيبه بالأحزان،(والمقصود أن تعيش مشاعر الحزن والنّدم على ما فرَّطت في جنب من أنعم عليك ولم يقصِّر في رعايتك)، حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسّادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول أستغفر الله".

إذاً، الاستغفار ليس كلمةً تقال أو صلاةً ترفع، وهو يحصل عندما تتخلَّص من تبعات ماضٍ عصيت فيه الله، أو لم تؤدِّ واجباً فرضه الله، أو قصَّرت في حقٍّ من حقوقه عليك.

 

إنَّ أجمل لحظات الحياة، هي تلك التي يشعر فيها الإنسان بأنَّ الله رضي عنه بعد سخط، وعفا عنه بعد ذنب، وقبله بعد تقصير، فلا يفوّتها أحد، فهي الطّريق لبلوغ حبّ الله، كما وعد. ومتى أحببنا الله في الحياة، فبالطّبع سنكون أقوى وأقدر على مواجهة التحدّيات.

 

الانتخابات: تنافس أم صراع؟!

والبداية من لبنان، الذي لايزال حديث الانتخابات يطغى عليه، وتتصاعد وتيرته مع اقتراب موعدها، حيث المشهد هو تصاعد وتيرة التّنافس بين القوى السياسية الفاعلة والممسكة بالقرار، التي تسعى إلى الحفاظ على مكتسباتها وتعزيز وجودها، والقوى الّتي تعمد لاختراق هذا الجدار الكبير، وحجز مكان لها في النّدوة البرلمانية، بعد أن أتاح القانون لها هذه الفرصة، وهذا يسجّل إيجابيّة للقانون الجديد، الذي يسمح بإدخال دم جديد إلى السّاحة السياسيّة، وإن بنسبة ليست مرتفعة، رغم أنّ السّاحة هي أحوج ما تكون إلى هذا الدّم، فلا حياة سياسيّة من دون تجديد الدّم في عروقها، أو من دون معارضة فاعلة تراقب وتحاسب وتكشف الحقائق للنّاس، ليعملوا معاً في مواجهة المشكلات.

 

وإن كنّا في لبنان لم نعد نجد حدوداً بين الموالاة والمعارضة، بل قد تزايد الموالاة على المعارضة في انتقاداتها. ونحن في هذا المجال، نؤكّد أهميّة هذا التنافس، ولكننا نبقى ندعو إلى عدم تحويله إلى صراع تستخدم فيه كلّ الأسلحة المحرَّمة دينياً وأخلاقياً، بحيث تستنفر فيه الغرائز الطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة والمناطقيّة، بل ينبغي أن يكون تنافساً بين المشاريع لتقديم الحلول لمشاكل البلد المستعصية، وهو الذي يعاني أيضاً تحدّيات الخارج، حيث التّهديدات المستمرّة للعدوّ الصهيوني، أو تحدّي المحيط من حوله، أو تحدّي الوضع الاقتصادي المتأزّم والفساد والهدر.

 

لقد آن الأوان لأن تخرج كلّ القوى السياسيّة من خطاب الهدم الذي نراه الآن في المهرجانات، وعلى الشاشات، وفي مواقع التّواصل؛ وهو هدم للوحدة الإسلاميّة وللتّعايش الإسلامي المسيحي والوحدة الوطنيّة، للوصول إلى خطاب التوحيد والبناء.

لكن نبقى نؤكّد على الذين يعدون الناس بوعود، سواء بتغيير أدائهم السياسي، أو بتحقيق أمانٍ وأحلام لهم، أن يكونوا صادقين، لأنَّ ما سيقولونه سيحلّ في ذاكرة الناس، وهم لن يلدغوا مرّة أخرى بعد مرات، فلا بدَّ لمن يعد من أن يفي، ومن ليس قادراً، فلا يكلّف نفسه عناء الحساب.

 

مؤتمر سيدر!

في هذه الأجواء، ينعقد مؤتمر سيدر لدعم لبنان. ونحن في الوقت الذي نرى إيجابية في أيّ مؤتمر يساهم في إخراج لبنان من أزماته وحلّ مشكلاته الاقتصادية، إلّا أنّ ما خشيناه سابقاً، وما نخشاه الآن، أن لا يؤدّي هذا المؤتمر، كما بقيّة المؤتمرات، إلى دعم لبنان، بل قد يزيد من معاناته، من خلال فرض شروط سياسيّة لا يستطيع أحد تحمّلها، أو من خلال تحميله أعباء ماليّة إضافيّة، هو غير قادر على تحمّلها، عندما تضخّ فيه أموال تزيد من أعباء الدّين، من دون أن تحسن الاستفادة منها، وقد تضيع كما ضاع غيرها في جيوب الفاسدين.

 

إنّنا إذ كنا نستبق نتائج هذا المؤتمر، إلّا أنّه يجب النظر بحذر شديد إلى أيّ التزام قد يزيد معاناة هذا البلد، أو يكون الهدف منه هو التّشديد على بقاء النازحين السوريّين فيه، وإن كان هناك ضرورة لدعم لبنان ومساعدته على تحمّل أعباء هؤلاء.

 

خطر التّنازلات

في هذا الوقت، وفي موقع آخر، يواصل أكثر من مسؤولٍ عربيّ وخليجيّ، إبداء استعداده لتقديم المزيد من التنازلات عن الحقوق الفلسطينيّة للكيان الصهيوني، والتأكيد أنَّ للإسرائيليّين الحقّ في أن يكون لهم وطن، وهو ما رأت فيه قيادات صهيونيّة أنّه يساوي وعد بلفور، وأنَّ ثمة مصالح كثيرة تجمع بين العرب والإسرائيليّين، من دون أن نسمع في المقابل أيّ استعداد صهيوني لتقديم الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة.

 

لقد بات من الواضح أنّ كلَّ هذا السّخاء العربي السياسي والمالي على الولايات المتحدة، هو لاسترضاء الإدارة الأميركية التي لن ترضى إلّا بمزيد من الابتزاز من مليارات الدولارات الخليجيّة. لأنّ الإدارة الأمريكية لا اتظر إلى الخليج إلّا من هذا الباب. ألم يقل الرّئيس ترامب إنّه سوف ينسحب من سوريا، وحين تمّ الاعتراض عليه بالقول إنَّ ذلك يخدم إيران، وافق على البقاء فيها، وقال: يجب عليهم دفع تكاليف ذلك؟ ما يوحي بأنّ تهديده كان يهدف أساساً إلى كسب المزيد من المال!

 

مواجهات يوم الأرض

ونصل إلى فلسطين، لنقف مع غزّة التي ودَّعت شهداءها الستّة عشر، وهي تستكمل بلسمة جراح المئات من المجاهدين والمناضلين الذين تصدَّروا مسيرات العودة إلى فلسطين.

 

إنّنا نحيّي الشعب الفلسطيني على هذه الوقفة البطوليّة في يوم الأرض، وعلى التّضحيات التي قدَّمها، وابتكاره أساليب جديدة تخيف العدوّ، كما يحدث الآن، من خلال الزّحف الشعبيّ على الحدود الذي يريد العدوّ له ألّا يتكرّر.

 

لقد فضحت مسيرات يوم الأرض سياسات إسرائيل، بعد إصرارها على مواجهة الحقِّ الفلسطيني باستخدام القتل. ويأتي عنوان حقّ العودة لهذه المسيرات، الذي يؤكِّده القرار 194 الصّادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ليمنح الشرعيّة القانونية الكاملة لهذه المسيرات أمام العالم، وهو ما يتيح فرصة أكبر لدول العالم وللرأي العام الدوليّ للوقوف مع الشعب الفلسطيني، وتشديد الحصار على إسرائيل، إذ إنّه من الصّعب أن نجد دولة غير الكيان الصهيوني تجادل في حقّ العودة.

 

إننا نريد لكلّ مناطق فلسطين المحتلة، أن تقف إلى جانب غزّة، لتحمل معها عبء هذه المواجهة، ليشعر العدوّ بأنّه محاط بالمواجهات من كلّ الجهات، وبذلك يؤدّي الجميع واجبهم، ونتقدّم خطوات مهمّة نحو تحقيق الوحدة الفلسطينيّة التي عجز السياسيّون عن صناعتها، ونسقط صفقة القرن التي يهاب الكثير من السياسيّين مواجهتها.

 

إننا على ثقة بأنّ فلسطين قوية بصمود شعبها وتضحيات أبنائها، وهي قادرة بالتخطيط والصّبر والصمود على تحقيق الكثير من الإنجازات.

 

Leave A Reply