العفو فعل إيمان.. وثماره مواسم خير على الجميع

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

في أيّام عبد الملك بن مروان، تولّى حكم مدينة يثرب والٍ حكمها بالسّوط، وضيّق على الإمام زين العابدين(ع) حتّى لحقه منه أذى شديد، وحين مات عبد الملك، عزل ابنه الوليد ذلك الوالي، وأوقفه للنّاس في ساحة المدينة كي يقتصّوا منه.

يومها، قال ذلك الوالي المعزول: والله إنّي لا أخاف إلاّ من عليّ بن الحسين، لكنّ الإمام مرّ عليه، وعلى عكس ما كان يتوقّع ويتوقّع النّاس، لم يتعرّض له بسوء، بل قال له بضع عبارات مطمئنة، ثم أمر أنصاره وخاصّته أن لا يتعرّضوا له بسوء، ثمّ أرسل إليه من يعرض عليه المساعدة: "إن كان أعجزك مال تؤخذ به، فعندنا ما يسدّ حاجتك، فطِبْ نفساً منّا ومن كلّ من يطيعنا".

أخلاق الرّساليّين

هذا نموذج، والنّماذج في حياة الإمام كثيرة، كان من أعجبها مع مروان بن الحكم، ومروان أحد أبرز أعداء أهل البيت(ع)، وهو الّذي حرَّض والي المدينة على قتل الحسين إن لم يبايع يزيد. فعندما حصلت ثورة في المدينة، وراح يبحث عمّن يبقي عائلته عنده، لم يجد إلا الإمام زين العابدين(ع)، وقد قالت إحدى بناته: ما وجدنا عند أبينا من الرّعاية والاهتمام والتّكريم كما وجدنا عند عليّ بن الحسين. تلك كانت أخلاق الإمام زين العابدين(ع)، الّتي نهلها من مدرسة جدّيه محمد بن عبدالله(ص) وعليّ بن أبي طالب(ع).

ولطالما كان الرّسول(ص) قدوة في العفو عمّن أساؤوا إليه، وأذاقوه الكثير من ألوان العذاب، وهو الّذي قال لهم حين فتح مكّة: "اِذهبوا أنتم الطّلقاء".

أيّها الأحبّة، العفو في اللّغة معناه الطّمْس والمحْوُ، ويعني التّجاوز عن الذّنب، وأن تسقط حقّك جوداً وكرماً وإحساناً، مع أنّك قادر على تحصيله والانتقام لنفسك. وإذا كان هذا غريباً وبعيداً عن أخلاق بعض النّاس، إلاّ أنّه ليس بغريب عمّن يتخلّق بأخلاق الإسلام، والّتي هي أخلاق القرآن وأخلاق رسول الله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(الأعراف: 199).

نعم، لا يستطيع متكبّر أو أنانيّ أو جبان أو ظالم أو حاقد أن يمارس فعل العفو، لأنّ كلّ واحد من هؤلاء لا يتجاوز في مواقفه ساحة ذاته، وينظر إلى الكلّ من دائرة أفقه الضيّق، وإن حدث وعفا أحدهم، فلِعلّة لا تتجاوز مصلحته.

يحتاج العفو إلى نفس تتّصف بالشّجاعة والتّواضع، ديدنها الشّفقة وهاجسها الرّحمة والرّغبة في مرضاة الله، وإحلال المحبّة محلّ الحقد. ولأنّ المحبّة والرّحمة هما خلق من أخلاق الله، فقد وصف نفسه جلّ وعلا في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}(النساء: 43).

ومن هذا الموقع، حذّرنا الرّسول(ص) والأئمّة(ع) من ترك هذه الفضيلة، فقد ميّز الرّسول(ص) بين الّذي يترك حقّه خوفاً وجبناً، وبين الّذي يعفو عن مقدرة، إذ قال: "ولا تحسبوا أنّ العفو عن الآخرين فيه ذلّ لكم".

في حين اعتبر الإمام عليّ(ع) أنّ" قِلّة العفو أقبح الذّنوب، والتسرّع إلى الانتقام أعظم الذّنوب".

تاج المكارم

وإذا كان العفو تاج المكارم، فإنّ الصّفح هو درّة ذلك التّاج. والله حثّنا على أن نكون من أهل الصّفح الجميل عمّن أساء إلينا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(الحجر:85). وحسب الإمام زين العابدين(ع)، هو العفو عمّن أساء إليك بدون تقريع وتوبيخ.

ومن سيرته(ع)، أنّ جارية كانت تسكب الماء له ليتوضّأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه الشّريف فجرحه، فرفع رأسه إليها فقالت: إنّ الله يقول: والكاظمين الغيظ، فقال: قد كظمت غيظي، فقالت: والعافين عن النّاس، فقال: عفا الله عنك، فقالت: والله يحبّ المحسنين. فقال: أنت حرّة لوجه الله. في مثل هذه المواقف، يصبح العفو قوّة وليس تجبّراً وطغياناً، وقدرة على الصّبر وكظم الغيظ، ولا يظلّ بعدها مكان للانتقام، لا في قلب من عفا، ولا في قلب من أساء.

ثمار مباركة

أيّها الأحبّة: لقد جعل الله العفو والصّفح من صفات المتّقين، بل عدّه نوعاً من الإحسان، إذ يقول في كتابه الكريم: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(آل عمران: 134).

بذلك تتكامل أخلاق الإنسان، فهو لا يكتفي بكظم الغيظ، بل يعفو ويصفح عن المسيء إليه، ويغسل قلبه من أيِّ ضغينة، كما يزيل من قلب المسيء أيّ أثر للعداء بالإحسان إليه، فيكسب ودّه وحبّه، وهذا يعني أنّ للعفو ثمرات، في مقدّمها نيل الثّواب من الله. فعن الإمام عليّ(ع): شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو، والعدل، وفي الآية الكريمة: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشّورى: 40).

أمّا ما يزرعه العفو في المجتمع، فله ثمار مباركة، تعود مواسمها بالخير على الجميع، فعندما يسيء إليك أحدهم، فإمَّا أن يغلي مرجل الغضب في عروقك، وتتأهّب كي تستردّ كرامتك المفقودة، وتردّ الصّاع صاعين، أو تعدّ إلى العشرة، وتستعيد سلوك الرّسول والأئمّة وأخلاقهم في مثل هذه المواقف الصّعبة، وتسأل نفسك: أأركب المركب نفسه وأقتدي بهم؟! يقول الإمام السجّاد(ع) في رسالة الحقوق: "وحقُّ من ساءك أن تعفو عنه، فإن علمت أن العفو عنه يضرّه انتصرت".

العفو المرفوض

العفو ليس خُلُقاً للتّجاوز عن أخطاء النّاس تجاهك فحسب، فقد يصبح الوسيلة الأنجح لإصلاح ما فسد من تصرّفات إنسان متهوّر، فمن وصايا الإمام عليّ(ع) لابنه الحسن(ع): "إذا استحقَّ أحد منك ذنباً، فإنَّ العفو مع العدل، أشدّ من الضَّرب لمن كان له عقل".

وقد يقول قائل: إنَّ من حقّ المظلوم أن ينتصر لنفسه، وأن يأخذ حقّه ممّن ظلمه وأساء إليه.

هذا صحيح، والصَّحيح أيضاً أنَّ كثيراً من المظالم الّتي يلحقها النَّاس بعضهم ببعض، خلال علاقاتهم، يمكن إدراجها في لائحة "فشّة الخلق" أو الهفوات العابرة، أو غير المقصودة، لهذا يوصينا الإمام عليّ(ع): "جازِ بالحسنة، وتجاوزْ عن السيِّئة، ما لم يكن ثلْماً في الدّين أو وهناً في سلطان الإسلام". هنا، في الحالة الأخيرة، أي عندما يكون التَّجاوز إضعافاً للدّين أو لمواقع القوَّة والمنعة، فإنَّ السّكوت على الإساءة قد يصبح جبناً، أو خوفاً، وإدارة ظهر لمبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

فالعفو عن إساءات لئيم أو فاسق أو فاجر، فيه تشجيع له للمضيّ في سلوكه الّذي قد يتفاقم، وهذا ما يشير إليه عليّ(ع): "العفو يفسد من اللّئيم بقدر إصلاحه من الكريم".

أيّها الأحبّة: العفو ليس من كماليّات حياتنا الاجتماعيّة، ولا عملية لياقات نتبادل مفرداتها في الهفوات البسيطة.

ابحث حولك؛ داخل أسرتك، وفي مكان عملك، وراقب الجيرة والأصدقاء، وصولاً إلى العلاقات السياسيّة السّائدة في مجتمعنا اليوم، واسأل: هل نحن مجتمع متسامح، هل ما زلنا قادرين على ممارسة فعل العفو، ولجم الغيظ، أم أنّنا بتنا بحاجة ماسّة إلى نوع آخر من الدّفاع المدنيّ لإطفاء حرائق تبادل التّهم، والتّراشق بقذائف إساءات من العيار الثّقيل؟

بضاعة نادرة

إنّ فضيلة التّسامح تكاد تكون عندنا اليوم، وعند غيرنا في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، بضاعة نادرة، أو سلاحاً مضى عليه الزّمن وبطل استعماله.

العفو فعل إيمان، ونحن بأمسّ الحاجة إلى أن نؤدّيه بإخلاص من داخل قلوبنا، وليس في الظّاهر فقط…

نحن بحاجةٍ لنؤدّي العفوَ بكلّ صدقٍ وإخلاص في أسرنا، مع أولادنا، وعائلاتنا، وإذا كان من حقّ ولدك عليك أن ترحمه وتثقّفه وتُعلّمه، فمن حقّه أيضاً العفو عنه والسّتر عليه، رفقاً به، كما يعلّمنا الإمام زين العابدين(ع). وهذا الحقّ ينسحب على كلّ من حولنا. والمطلوب منّا اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، أن نوسِّع دائرة التَّسامح من حولنا لمن يستحقّون التّسامح، لأنَّنا نعيش مرحلة تحتاج إلى شدّ الرَّوابط، وتمتين العُرى، والّذي يتمسَّك بما فرضه الله تعالى، يجازيه على إخلاصه فيما يؤدِّيه.

أنت تشهد لربِّك بالرَّحمة، فكيف لا ترحم وتعفو وتصفح، وربّ العزّة يقول في الحديث القدسيّ: "ما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه".

وصفة قرآنيّة

{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف}(المائدة: 95)، هذه وصفة من وصفات القرآن الكريم لتحصين نفوسنا من فيروس الانتقام، الّذي بات يعيش معنا، في بيوتنا، وأماكن العمل، في مدارسنا ونوادينا الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، حتَّى بتنا وكأنَّ الواحد منَّا لا يخرج إلاّ وقد تدجّج وتسلّح بسيف الانتقام.

أليس هذا ما توحيه وسائلنا الإعلاميّة، حين لا تخرج علينا إلاّ بما يوغر الصّدور، وينفخ الأوداج؟

لنسأل أنفسنا، ونحن من يتَّخذ محمّداً(ص) أسوة وقدوة: هل انتقم لنفسه في شيء؟

إنّ لذّة الانتقام لا تدوم غير لحظة بسيطة، ثمّ تنطفئ وتهمد، أمّا السّكينة الّتي تعقب العفو، فإنّها تفتح أمام فاعله أفقاً رحباً من الرّضا والارتياح، لا ينقضي زمنه إلى بعروج الرّوح إلى بارئها راضية مرضيّة.

آنَ لنا أن نتَّعظ بما يحدث حولنا في هذا العالم المجنون، الّذي يبدو وكأنَّه قد فقد صوابه، أو عاد إلى جاهليّةٍ جاهد محمد بن عبدالله(ص) لإسقاطها من النّفوس، ولكن ما أقلّ المتّعظين، وما أكثر الّذين لا يقرأون التَّاريخ! فالمنتقم يرتكب الخطيئة نفسها الّتي ينتقم لأجلها، أمّا فاعل العفو، فهو السَّاعي دائماً لإنتاج تاريخ جديد، وإضافة فصل جديد إلى فصول الرَّحمة والحبّ في الإسلام.

و أخيراً، مع الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: "وَسَدِّدْنِي لأنْ أعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، واُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ".

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله الّتي هي الزّاد في الدّنيا وزاد الآخرة. ولبلوغ التّقوى، لا بدّ من أن نهتدي بالحسين(ع)، الّذي كانت ذكرى ولادته في الثّالث من شهر شعبان، حيث تذكر سيرته أنّ إعرابيّاً جاء إليه وقال له: "يا بن رسول الله، قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم النّاس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله". فقال الحسين(ع): "يا أخا العرب، أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكلّ أعطيتك الكلّ". فقال الأعرابي: "يا بن رسول الله، أمثلُكَ يسأل عن مثلي وأنت من أهل العلم والشّرف؟"، فقال الحسين(ع): "سمعت جدّي رسول الله(ص) يقول: المعروف بقدر المعرفة"، فقال الأعرابيّ: "سل عمّا بدا لك، فإن أجبت وإلا تعلّمت منك، ولا قوّة إلا بالله". فقال الحسين(ع): "أيّ الأعمال أفضل؟"، فقال الأعرابي: "الإيمان بالله". فقال الحسين(ع): "فما النّجاة من الهلكة؟"، فقال الأعرابيّ: "الثّقة بالله". فقال الحسين(ع): "فما يزين الرّجل؟"، فقال الأعرابيّ: "علم مع حلم". فقال الحسين(ع): "فإن أخطأه ذلك؟"، فقال الأعرابيّ: "مال مع مروءة". فقال الحسين(ع): "فإن أخطأه ذلك؟"، فقال الأعرابي: "فقر مع صبر".

بهذا التّكريم، أراد الحسين(ع) أن يثبت حقيقة أشار إليها رسول الله، وهي أن مفتاح العطاء يكون على قدر العلم، وبهذه الرّوح استطاع الإسلام أن يبني حضارة لا يزال العالم يستفيد منها، وهذه الرّوحيّة الّتي ينبغي أن نتابعها حتّى نكون مجتمعاً واعياً ونواجه التحدّيات الكثيرة.

فوضى الفتاوى

في فلسطين المحتلّة، ينشط العدوّ الصّهيونيّ في توسيع دائرة زحفه الاستيطانيّ، ليشمل القدس والضفّة الغربيّة، ويستمرّ في مشروعه للإطباق على فلسطين وتهويدها، مستغلاً الانقسام الفلسطيني وانكفاء الشعوب العربيّة والإسلاميّة عن الاهتمام بما يجري في فلسطين.

إنَّ كل ما يجري بات يستدعي تضافر جهود كل الفصائل الفلسطينية، لتوحيد صفوفها، والخروج من مراوحة تكريس الانقسام الفلسطيني، ومواجهة هذا العدوّ باللّغة التي يفهمها، لا بلغة التّنازلات التي تدعو إليها أميركا، في الوقت الّذي نعيد التأكيد على الشعوب العربية والإسلاميّة، بإبقاء وجهتها في مواجهة هذا العدوّ، فلا تسمح للسّاعين بتحويل بوصلتها نحو فتن مذهبيّة وطائفيّة.

وفي هذا المجال، فإننا نتوجّه إلى كلّ العلماء الّذين يحرّكون فتاواهم "الجهادية" في مواجهة هذا البلد العربيّ أو ذاك الإسلاميّ، أو في مواجهة هذا الفريق أو هذا المذهب أو ذاك، أن يبقوها في موقعها، لتبقى هذه الفتاوى في خدمة قضايا الأمّة ووحدتها، وتدعيم كلّ مواقع القوّة فيها، وأن تكون مواجهة العدوّ الصّهيونيّ في طليعة أولويّاتهم، فإنّ أخطر ما يواجه الأمّة انزلاق علمائها والواعين فيها في مهاوي الفتنة، ليكونوا صدى لما يجري في الشّارع من توترات.

سوريا: من يسكت صوت المعركة؟!

ونصل إلى سوريا، حيث يستمرّ نزيف الدّم، في ظلّ تلكّؤ الدّول المؤثّرة في هذا البلد عن إيجاد حلول تعيد إليه استقراره وأمنه، وفي ظلّ الحديث عن تقديم سلاح متطوّر للمعارضة، أو حديث عن استخدام للسّلاح الكيميائي، ما يساهم في زيادة تفاقم الصّراع ومزيد من التدخّل في معاناة هذا البلد.

وعلى الرّغم مما نسمعه من أنّ الصّوت هو صوت المعركة وصوت الحسم والحسم المضادّ، نعيد التّأكيد على كلّ مكوّنات الشعب السوري، أن لا خيار لهم الخروج من هذه الأزمة، إلا بحوار داخلي يضمن لهذا البلد بقاءه في موقعه المقاوم والممانع، ويضمن حقّ الشعب السوري في الحرية، كما يضمن ما يوقف نزيف الدّم والدّمار، حيث يتحدّث البعض عن عشرات الألوف من الضّحايا، فضلاً عن الدمار الكبير وكلفته العالية، والخوف هو من وقوع هذا البلد في قبضة الدّول الكبرى الّتي لم تعمل ولن تعمل إلا لمصالحها الاستراتيجيّة على مستوى المنطقة، والجامع بينها هو بقاء العدوّ الصّهيونيّ الأقوى في المعادلة.

ولا بدّ لنا ونحن نتحدّث عن الوضع السّوريّ، من أن نلفت إلى خطورة مشهد المجزرة المروعة الّتي حدثت في إحدى القرى السوريّة، والّتي أعطاها القائمون بها عنوان التطهير المذهبي، والّتي نخشى من تداعياتها على المشهد السوري، فهذا المشهد وغيره من مشاهد القتل، يستدعي موقفاً إسلاميّاً واحداً في مواجهة استباحة الدّم واستعادة القيم الإسلاميّة الّتي حرص رسول الله على الدّعوة إليها عندما قال: "المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه. لا ترجعن بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، والرسول بريء ممن يقومون بهذه الأعمال براءة الذّئب من دم يوسف.

إيران: الحفاظ على المكتسبات

ونصل إلى إيران، الّتي يخوض شعبها انتخابات تحدّد رئيساً جديداً لجمهوريّتها، وسط تنافس بين تنوعاتها السياسية، حيث تؤكّد الجمهورية الإسلاميّة مجدّداً الحفاظ على التنوّع الداخليّ بين مكوّناتها السياسيّة، وتجربتها الرّائدة في مشاركة الشّعب وما يتعارف عليه تحت عنوان الديمقراطيّة، ونحن في هذا المجال، ندعو الشعب الإيراني إلى الوعي أكثر لكلّ المخطّطات التي تهدّد بلدهم، وأن يكون أميناً على كلّ هذه المكتسبات التي وصل إليها، وحريصاً على اختيار من يعملون على جعل هذا البلد نموذجاً في تجربة إسلامية رائدة تنفتح على محيطها العربي والإسلامي، من خلال عنوانه الإسلامي، مع الحفاظ على ثوابتها ومرتكزاتها.

أرزاق اللّبنانيّين في مهبّ السياسة

وفي مجال آخر، فإنّنا نأمل من دول مجلس التعاون الخليجي، إعادة النظر فيما يُثار من قرارات تطاول اللّبنانيّين، أو الذين ينتمون إلى مذهب معيّن، والّتي تترك تداعياتها على أرزاق هؤلاء وأوضاعهم، في الوقت الّذي قد يكونون بعيدين كلّ البعد عن الصّراعات الدّائرة في المنطقة.

إنّنا ندعو هذه الدّول التي كانت دائماً حريصة على ألا تتعاطى مع اللّبنانيّين على أساس انتماءاتهم الدينيّة أو السياسيّة، أن تبقى على الخطّ الّذي يستمدّ عنوانه وحركته من قيم العروبة والإسلام.

وفي الوقت نفسه، نعيد التأكيد على ما كنّا ندعو إليه ولا نزال، أن يكون الجميع أمناء على هذه البلدان الّتي استضافتهم، وأن يحافظوا على استقرارها وأمنها ومصالحها، وأن يبادلوا الإحسان بالإحسان، ونحن على ثقة بأنّ المشاكل السياسية الطارئة، لن تنال من العلاقات التي تتصل بالتراث والأخوّة والرّوابط المشتركة الكبيرة التي تجمع بين اللّبنانيّين وهذه الدول وكلّ المذاهب الإسلاميّة.

الوطن المحاصر بالنيران

وفي مجال آخر، نريد للبنانيين ألا يسمحوا للأوضاع الخطرة والتجاذبات الأمنيّة والسياسيّة الّتي تحدث في المنطقة، أن تكون سبباً في زعزعة الثّقة فيما بينهم، طوائف ومذاهب وجهات سياسية متعدّدة، بحيث وصل الخطاب إلى أدنى مستوياته، وأن يعملوا على محاصرة النيران السياسية والأمنية والرياح المذهبية التي تأتيهم من تطورات المحيط، بتعزيز الخطاب الهادئ والمسؤول والموقف المتوازن، سواء على المنابر أو عبر الشّاشات ووسائل الاتّصال الاجتماعي، بعيداً عن الأسقف العالية وغير الواقعيّة.

إنّنا ندعو إلى حوار موضوعيّ هادئ بين مكوّنات هذا البلد كافّة، ولا سيّما في الدّائرة الإسلاميّة، للوصول إلى صيغة تقي هذا البلد من أن ينزلق في هاوية الفتنة عندما تتوافر الظّروف، حتّى لو بقي الخلاف حول كيفيّة التّعامل مع هذا الملفّ أو ذاك.

كما ندعو إلى الإسراع في العمل على إزالة كلّ العوائق التي تمنع تأليف حكومة وحدة وطنيّة يشارك فيها الجميع، والسّعي لتحريك عجلة المؤسَّسات النيابيّة والدستوريّة، كي تنهض هذه الحكومة بكلّ المسؤوليّات الملقاة على عاتقها، سواء فيما يتعلّق بالجانب الأمنيّ أو الاقتصاديّ الّذي ينذر بكارثة إن استمرّ الوضع على حاله، فضلاً عن الجوانب الاجتماعيّة والمعيشيّة وخروقات العدوّ المستمرة.

أيّها اللّبنانيّون، أيّها المسؤولون، إنّ هذا البلد هو أمانة في أعناقكم، فاحفظوه برموش العيون، ولا تجعلوه في مهبّ رياح الحساسيّات والعصبيّات والأنانيّات والمحاصاصات، احفظوه ليبقى لأولادكم وأحفادكم كما حفظه الآباء والأجداد وأبقوه لنا.

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

لتاريخ: 5 شعبان 1434 هـ  الموافق: 14/06/2013 م

 

Leave A Reply