المهديّ(عج): أمل المستضعفين في الأرض

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:


الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ  فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} صدق الله العظيم.

أمل المظلومين

عشنا وقبل أيّام، أي في اليوم الخامس عشر من شهر شعبان، ذكرى ولادة الإمام الثّاني عشر من أئمَّة أهل البيت(ع)، الإمام محمد بن الحسن العسكري، الحجَّة القائم، صاحب العصر والزّمان، القائم بالحقّ والعدل، أرواحنا لمقدمه الفداء.

ولهذه الذّكرى قيمة خاصَّة ومميَّزة، أنها تأتي وهي تحمل معها الأمل إلى نفوس المظلومين والمقهورين والمعذبين والمستضعفين، ولتذكّرهم بأنّ المستقبل لن يكون أبداً للطّغاة والمستكبرين والمتجبّرين، ولا للّذين يستبيحون دماء النّاس وأعراضهم، أو للّذين يعيثون في الأرض فساداً، بل هو لعباد الله الصّالحين، الّذين سيكونون أئمّة الأرض ووارثيها، لدعاة الحقّ والعدل والحريّة، للمستضعفين…

والأمل المشرق ــ أيّها الأحبَّة ــ هو ضرورة للإنسان، هو الّذي يدفعه للعمل، ويساعده على الاستمرار والتطوّر وعدم الركون لضغوط الواقع وتحدّياته، وبدونه، سيعيش الإنسان الإحباط واليأس والجمود والموت الفكريّ والعلميّ والرّوحيّ والعمليّ، والاستكانة والاستسلام للأمر الواقع.

فالفرق كبير بين من يشعر بانسداد الأفق من حوله، وأنّ الحياة باتت أمامه مظلمةً، وبين من يرى النّور قادماً لا محالة، وأنّ هناك فرجاً ومخرجاً ولو في نهاية المطاف.

لكنّه ليس أيَّ أمل؛ الأمل الَّذي يستند إلى الواقع، إلى ما ورد عن الله وعن رسوله. والأمل الّذي نستشعره بولادة الإمام المهدي(عج) وحتميّة ظهوره، لتحقيق أحلام البشريَّة بالعدل المفقود والحقّ المنتقص، هو من هذا الأمل الّذي يستند إلى واقع وحقيقة.

 

ادّعاءات لا تثبت أمام النَّقد

إنَّ هذا الأمل الإنسانيّ ـ أيّها الأحبَّة ـ لا يندرج في خانة الأماني الموهومة، ولا أحلام اليقظة، كما راح البعض يفلسف قضيَّة المهدي(عج)، ويقول عنها إنّها فكرة من نتاج الطَّواغيت ابتدعوها لتخدير المستضعفين والمعذَّبين والمقهورين، بهدف إقناعهم بقبول الواقع المرير الَّذي يعيشونه، وشلِّ إرادتهم عن النّهوض والتَّغيير، وتثبيت حالة العجز والاستكانة والجمود، وأنَّ هناك من سيأتي لينشلهم من واقعهم، وأنّ عليهم أن لا يتعبوا أنفسهم بالعمل لبلوغ ذلك.

وهذا ادّعاء لا يثبت أمام النّقد، شأنه شأن الادّعاء الّذي يعيد ظهور الدّين إلى ضعف البشر، وإلى أحلامهم في الخلود، من دون التبصّر بما طرحه الأنبياء والكتب السماويّة، وبحقيقة الأديان، فالإيمان لا يقف عن حدود إمكان إيمان المقهورين والمعذَّبين والقلقين؛ هو إيمانٌ يشمل حتى الّذين يعيشون الأمان والاطمئنان والحريّة والعدل.

ثم إنَّ من يلتزم الإمام المهدي، لا يمكن أن يكون قاعداً أو خائفاً أو ذليلاً، بل لا بدَّ من أن يكون حاضراً في كلِّ قضايا العدل في الحياة، وألا يكون متنكِّراً له، لكونه يقف إلى جانب من يملأ الأرض عدلاً ويعيد الحقَّ إلى نصابه، وإلا لن يكون من جنده وأنصاره والممهِّدين له.

وهناك ادّعاء آخر نشير إليه، يتلخَّص في أنَّ هذه الفكرة ابتدعها الشّيعة كنتيجةٍ للمعاناة والظّلم اللّذين تعرَّضوا لهما عبر التّاريخ، وبعدما لم يستطيعوا أن يحقّقوا ما يصبون إليه، فروّجوا لهذه الفكرة الّتي تعزّيهم بخروج إمامٍ في آخر الزّمان، يعيد إليهم الحكم ويأخذه من ظالميهم.

ويعود تهافت هذا الادّعاء إلى حقيقة أنَّ فكرة الإمام المهدي ليست شيعيّةً خالصةً حتى يتحدَّث بهذا المنطق، بل هي فكرة إسلاميَّة تؤمن بها كلُّ المذاهب الإسلاميَّة، بل أكثر من ذلك، هي فكرة دينيّة تؤمن بها كلّ الأديان، فضلاً عن أنها فكرة إنسانيّة تستند إلى الفطرة البشريّة وإلى طبيعة الواقع الإنسانيّ الّذي لا يمكن أن نتخلّص من مرارته وبؤسه إلا بإمداد غيبيّ، يتمثّل بظهور مثل هذا المخلّص للإنسان والبشر. ثم لو كانت هذه الفكرة صحيحةً، وأنها نتاج معاناة الشّيعة، فكيف نفسّر بقاء إيمان الشّيعة بها، حتى بعدما صارت لهم دولة تعبّر عنهم، ولها امتدادها، وصار لهم حضور  كبير كما في هذا العصر.

 

الإيمان بالمهديّ عقيدة راسخة

إنّ إيماننا بالإمام المهديّ(عج) لم يكن إذاً أماني ولا أحلاماً ابتدعت، بل هو عقيدة راسخة نؤمن بها انطلاقاً من إيماننا بما ورد عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله(ص) أو الأئمّة(ع)، هو من العقائد الّتي تستند في أسبابها وتفاصيلها إلى الآيات والأحاديث، ويخبر عنها واقعٌ حصل خلال حياته الّتي امتدّت لتسعٍ وستّين سنةً قبل غيابه إلى ما شاء الله، وهي في ذلك عقيدة ليست بعيدةً عن العقل والمنطق.

فالعقائد الّتي نؤمن بها، منها ما ينطلق الإيمان به من العقل، كما هو الإيمان بوجود الله الّذي نستدلّ عليه من آثاره، ومنها ما نعتمد فيها على النّقل من الآيات القرآنيّة الّتي آمنّا وصدَّقنا بأنها وحيٌ من الله، ومن الرَّسول الّذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.. مثل إيماننا بوجود الملائكة أو الجنّ، أو إيماننا بأحوال المستقبل القادم من يوم الحساب والجنّة..

وهنا نؤكِّد أنَّ النّقل لا يصادم العقل في كلّ ما يدعو إليه. نعم، قد يصادم ما اعتاد عليه الإنسان، فالمعجزات والكرامات قد تخالف ما اعتاده الإنسان من مسار الحياة، لكن لا تخالف العقل الّذي يؤمن بقدرة الله، وأنّ لله من السّنن في خلقه ما قد يجهله الإنسان.

إنَّ إيماننا بالإمام المهدي(عج) ينطلق من إيماننا بالوعود الإلهيَّة الّتي تكرَّرت في القرآن الكريم في أكثر من آية، وأكَّدت أنَّ الباطل لن يستمرَّ عندما يتحرَّك عبادُ الله الصَّالحون، ويقومون بدورهم في مواجهة الظّلم والطّغيان، ويصنعون من الضَّعف قوّة.

 

فكرة المهدي في القرآن والأحاديث

ففي القرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.

ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

ويقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}.

وفي الحديث: "إنَّ ذلك سيكون عند خروج المهدي من آل محمّد، حيث لا يبقى أحد إلاّ وأقرّ بالإسلام".

كلّ هذه الوعود القرآنيّة تحمل دلائل واضحة على أنَّ الله سيغيّر واقع الإنسان والحياة، عندما ينهض الإنسان بالتَّغيير، ولا يقبل بمنطق الضَّعف والاستضعاف، وسيكون العنوان الأبرز للتَّغيير هو ظهور الإمام المهدي، لكونه يحمل المشروع الإلهيّ بإقامة حكومة العدل الإلهيّة. وقد سجّلت كتب الأحاديث من مصادر المسلمين جميعاً السنيّة والشيعيّة، أحاديث صحيحة عن الإمام المهدي بلغت حدّ التّواتر، حيث قدِّرت هذه الأحاديث بألف حديثٍ أشارت إلى الإمام وحدّدت تفاصيله.

وسنورد منها حديثين؛ واحداً ورد في مسند أحمد عن رسول الله(ص): "لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلاً من ولدي، يواطئ اسمه اسمي، يملأها عدلاً وقسطاً بعد ملئت ظلماً وجوراً"، وحديثاً آخر يشير إلى أنّ هذا الإمام سيبقى حاضراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ففي حديثٍ عن رسول الله(ص): "إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي؛ فإنَّهما لن يفترقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ". هذا إلى جانب الأحاديث الّتي أشارت إلى صفاته ونسبه، وأنّه من سلالة رسول الله، وابن الإمام الحسن العسكريّ.

 

مواصفات جنود المهدي(عج)

لقد غاب الإمام المهدي بعد وفاة أبيه الحسن العسكري(ع)، لكنَّه لم يغب عن رسالته، فهو حاضر في كلِّ دعوة حقٍّ وعدل، هو حاضر في كلِّ مكانٍ لله فيه رضا، وفي كلِّ مواجهةٍ للباطل والطّغيان.

لذلك، أن نكون جنوده وأنصاره وأعوانه والممهّدين له، يعني أن نكون جنوداً للحقّ والعدل ولكلِّ ما فيه رضا لله، أن نكون حاضرين في مواجهة الظّلم والباطل والاستكبار، أن يكون هذا ما نسعى إليه… أن يكون هذا شغلنا وسعينا، لا أن ننشغل، كما يحصل في واقعنا، بالتفتيش عن علامةٍ هنا أو هناك تؤشّر إلى الظّهور، ونستغرق فيها مما لا يفيد شيئاً، لأنّ الحديث عن العلامات اختلط فيه الصّحيح بغير الصّحيح، وحتى لو كانت العلامات صحيحةً ودقيقة، فإنّنا لا نملك التثبّت من تحقّقها في هذه المرحلة، لأنّ تحقّقها قد يكون الآن، وقد يكون بعد ذلك، وقد يكون بعد زمنٍ طويل.

كَذِبَ الوقّاتون

ومن هنا، كان تأكيد الأئمَّة(ع) على عدم الوقوع في لعبة التَّوقيت أو حتى الخوض فيها، كما ورد عن الإمام الباقر(ع) في كلامٍ لأحد أصحابه حين يسأله: هل لهذا الأمر وقت (أي وقت لتحديد الخروج)، فقال(ع): "كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون".

وعن الإمام الصَّادق(ع): "كذب الموقّتون، ما وقّتنا فيما مضى، ولا نوقّت فيما يستقبل".

إنَّ علينا أن نكون واعين في مواجهة كلِّ هذه الظّواهر الّتي تحدث الآن، أو في تطبيق علامات الظّهور على ما يحدث في هذا البلد أو ذاك، أو أنها تنطبق على هذا الشّخص أو ذاك، أو هذه الجهة أو تلك، وأنّ هذا اليماني أو ذاك السّفيانيّ… حيث نجد أشخاصاً كلّ شغلهم هو الحديث عن علامةٍ هنا أو هناك، مما بات يسيء إلى فكرة الإمام المهدي(عج)، ويهوّن منها، وقد يصل إلى حدّ تسخيفها، مما ينبغي العمل على عدم الوقوع فيه.

ولذلك، حرصاً على بقاء هذه الصّورة، وبقاء حضورها في الميدان الفكريّ والثّقافيّ، وفي التّأثير في مجريات الواقع، لا بدّ من عدم العبث بها.

إنّ خروج هذا الإمام(عج) هو بيد الله الّذي لم يطلع أحداً عليه، بل أبقاه سرّاً إلى حين تهيئة الظّروف لخروجه، والزّمن المناسب له والأمَّة الجديرة به.. وعند ذلك، تكون العلامات بيّنةً وواضحةً وجليَّة، ولا لبس فيها عندما يخرج. إنَّ دورنا هو أن نعيش الاستعداد الدَّاخليّ إلى حين ظهوره حتى ننضوي تحت ظلّه، ما يتطلَّب بذل المزيد من الجهد الرّساليّ، والمزيد من الجهوزيّة على كلّ المستويات، لنكون جاهزين في أيّ وقتٍ خرج، ولائقين بالانضواء تحت لوائه.

 

كيف ننتظر الإمام(عج)

وهذا يحتاج إلى أن يطوّر كلٌّ منّا كفاءته في البناء الرّوحي والإيمانيّ، فمشروع الإمام في إقامة دولة العدل، يحتاج إلى كفاءاتٍ تتميّز في كلّ الميادين؛ كفاءات في المعرفة، في الاقتصاد، في الإدارة، في السياسة وفي الجهاد، وفي التربية والتّعليم، وفي الطبّ والهندسة والعلوم التقنيّة والتكنولوجيّة…

فالإمام(عج) لن يجامل في هذا الطّريق، هو لن يختار إلا الّذين يكونون الأحسن علماً وعملاً، والأكثر إتقاناً وإخلاصاً.

سننتظر الإمام بكلِّ شوقٍ ولهفة، سنترقَّب حضوره في كلِّ وقت، ولن نكفَّ عن الدّعاء: "اللَّهمَّ ثبِّتنا على دينك ما أحييتنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا".. ولكن لن ننتظره انتظار القاعدين المتواكلين، سننتظره ونحن نقف في ساحات العلم والعمل والجهاد والبناء، سننتظره من حيث سيأتي، هو لن يأتي إلا حيث يكون العدل والإخلاص والإتقان، وحيث يكون رضا الله وطاعته.

سننتظره ونحن نعمل لتوحيد الصّفوف وإزالة العقبات، سننتظره ونحن نسعى لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، سننتظره ونحن في ميدان التحدّي والجهاد في مواجهة كل ظلمٍ واستكبار، سننتظره حتى نحظى بشرف النّظر إليه والشَّهادة بين يديه والعمل في ظلِّ قيادته…

اللَّهُمَّ أرنا الطّلعة الرَّشيدة، والغرَّة الحميدة، وكحِّل ناظري بنظرة منّي إليه. اللّهمَّ واجعلنا من أنصاره وأعوانه، والذّابّين عنه، والمسارعين إليه، والمستشهدين بين يديه. 

 

 

 

الخطبة الثانية 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، وبلوغ أمره، وعمارة قلوبنا بذكره ومحبَّته. وحتّى نبلغ التَّقوى، لا بدَّ من تجديد العهد لإمام العدل، الإمام المهديّ(عج)، سلوكاً في حياتنا؛ بأن نكون العادلين مع الله، بأن نعطيه حقّه ونذكره ونشكره ونطيعه، ونكون العادلين مع أنفسنا، بكفّ الأذى عنها في الدّنيا، ووقايتها من نار جهنّم، ونكون عادلين في بيوتنا، بأن يؤدّي الزوج حقّ زوجته، وتؤدّي الزّوجة حقّ زوجها، ويؤدّي كلّ منهما حقّه على الآخر في المعاشرة بالمعروف والمودَّة والرّحمة، وأن يكون كلّ منهما خيراً للآخر، وأن يعدلا مع الأولاد، فيُعطى كلّ ولد حقّه في الرّعاية والاهتمام والتّربية، وأن لا يُفرّقا بين ولد وآخر، أو بين ذكر وأنثى.

في أيام العدل، نحن مطالبون بالعدل مع كلّ الناس؛ مع الجيران والأرحام، وفي مواقع العمل، أن يكون العامل عادلاً، فيتقن عمله، والطَّبيب عادلاً، فيوفي مريضه حقّه في العلاج، والتاجر عادلاً فلا يغشّ، والمسؤول عادلاً فيعدل بين رعيّته.. أن نكون عادلين في حالة الرضا والغضب، ومع العدوّ والصديق في القول والعمل، وأن نكون مع الَّذين يعملون للعدل، أن نشدّ أزرهم ونقوّي مواقعهم، فلا يوجد مساومة على العدل تحت أيّ اعتبار، لأن لا مساومة على الدين، فالدين رسالة عدل للحياة.

بهذه الرّوح، ننظر إلى كلّ القضايا، فنحن مع العدل أينما كان، وضدّ الظلم أينما كان.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الّذي يكثر فيه الجدل حول كيفية مواجهة الأخطار المحدقة به من حدوده الشّرقيّة، وقد بات واضحاً الاضطراب الرّسميّ في اتخاذ قرار سياسيّ حاسم حيال المسؤوليّة الملقاة على عاتق الجميع في تحرير جرود عرسال، وعدم إبقائها منصَّة للإساءة إلى البلدة وبقيّة القرى البقاعيَّة، وصولاً إلى الوطن كلّه، مع يقيننا بقدرة الجيش اللبنانيّ على القيام بهذه المهمّة.

وقد كنا نرى أنَّه لو صدر قرار وطنيّ وسياسيّ واضح في هذا المجال، لكان الحلّ الأمثل لمعالجة أية تداعيات قد يحدثها تدخّل فريق يُحسب على طائفة أو مذهب أو محور سياسيّ.

ونحن أمام هذا الواقع، لا بدَّ من أن نؤكّد الثوابت الأساسية في حفظ عرسال وأهلها، وتأمين الحماية لهم، حتى لا يتعرَّضوا لأي سوء، كما نؤكد حفظ كلّ البلدات وكلّ أهلنا في البقاع في مواجهة المسلحين الَّذين يعرف الجميع كيف أجرموا بحق الجيش اللبناني وبحقّ أهلنا، خطفاً وقتلاً وتفجيرات، وغير ذلك من ألوان التهديد المستمرة.

 

وفي الوقت نفسه، نشدّد على الجميع الكفّ عن كلّ خطاب طائفيّ، أو كلّ تحرّك له طابع مذهبيّ أو طائفيّ، بالنّظر إلى تداعياته الخطيرة على الداخل اللبناني، ونحذّر ممّن يصطادون في الماء العكِر الداخلي، ويسعون لإثارة النّعرات المذهبيّة والطائفيّة وتسويقها. إننا نرى أنَّ هذا الخطاب يسيء إلى منطلقات الَّذين يبذلون دماءهم وحياتهم؛ فهم يبذلونها لحساب الوطن، بعيداً عن أيّ حسابات مذهبية أو طائفية أو حسابات أخرى.

إنَّنا ندعو الجميع إلى أن يقفوا إلى جانب الجيش اللبناني، وأن يؤمّنوا التغطية السياسيَّة اللازمة له وكلّ الإمكانات، كما ندعو كل الذين يخافون تداعيات ما يجري على الدّاخل، إلى أن يستنفروا علاقاتهم الإقليميَّة أو الدّوليَّة وصداقاتهم، لإبعاد المسلّحين عن الأراضي اللبنانية كافّة، وأن لا يشيحوا النظر عن الأخطار التي تحدق بالوطن، ولا سيَّما القرى البقاعيّة.

ونحن في الوقت الّذي نؤكّد الحرص على تكريس كلّ الجهود لحفظ الأمن الوطني، نشدّد على أن يكون الحرص مستمراً على عدم العبث بالحكومة، لكونها المعقل الأخير من مواقع الدّولة المركزيّة، ولأنَّ تعطيلها الَّذي نخشى أن يكون قد طرقنا أبوابه، يعني السير بالبلد إلى الشّلل وإلى حافة الهاوية، وهذا أمر غير جائز، مهما كانت الأسباب، لأنه يمسّ بمصالح المواطن كافّة، ولا يحق لأي مسؤول، وتحت أي اعتبار، المسّ بها.

 

كما ندعو المسؤولين إلى أن يكونوا حاضرين وفاعلين في التعامل مع القضايا الجوهريَّة في هذه المرحلة الحسّاسة والخطرة. ونبقى نراهن على الحكماء والإطفائيين والعقلاء، الذين كان لهم دورهم في السابق، ونريد أن يكون لهم دورهم في احتواء الأزمات، وأن لا يعدموا في ذلك وسيلة.

وهنا نشدّد على أن تبقى عيوننا جميعاً، كما هي عيون المقاومة، على خطر الكيان الصهيوني الَّذي يجري تدريبات ومناورات لكيفية المواجهة في لبنان، وتطلق قياداته التهديدات لتهجير أعداد كبيرة من اللبنانيين.. وفي الوقت الذي لا نرى في هذه التهديدات إلا استعراضاً للقوة ومحاولات لرسم خطوط ومعادلات معينة، ندعو إلى الحذر من عدوٍّ ماكر ومخادع، قد يستغلّ الظروف للقيام بمغامراته، مع وعينا بجهوزية المقاومة والجيش اللبناني لردّ أيّ اعتداء.

 

العراق وسوريا

وعندما نطلّ على الوضع في المنطقة، حيث يستمرّ المشهد قتامةً ودمويةً، نرى أنّ التحالف الدولي ما زال يلعب لعبته المزدوجة. وقد كنّا نأمل من مؤتمر باريس الَّذي عُقِد أخيراً، أن يكون مناسبة يعيد من خلالها التحالف الدّوليّ النّظر في استراتيجيته التي أثبتت عقمها وفشلها وعدم جدواها، وأن يطرح استراتيجية جادة وفاعلة ضد الإرهاب المتمادي الَّذي يهدّد بتمزيق المنطقة واستباحتها وهز كياناتها، بدلاً من خطابات استعراضيَّة وغير عمليَّة لا تُسمن ولا تغني من جوع، لا في العراق ولا في سوريا.

إنّنا أمام ذلك، نعيد الدّعوة إلى صياغة تحالف متين بين كلّ الدّول الجادّة في مواجهة الإرهاب، وإلا سيأكل هذا الإرهاب الأخضر واليابس.

 

اليمن

أمّا اليمن، فإنَّنا نأمل أن تتمّ المباشرة بالحوار بين الأطراف اليمنيّين الأساسيّين، بعدما تبيَّن للجميع أنَّ رحى الحرب تدور على اليمن بشراً وعمراناً واقتصاداً وبنيةً تحتيَّة، وأن استمرار هذا النزيف في هذا البلد، لن يكون إلا لصالح هذا الطَّرف الإقليميّ أو ذاك.. إنّنا نتطلَّع إلى انحسار التّجاذب الإقليميّ والدّوليّ في المسألة اليمنيّة، وذهاب الجميع إلى طاولة الحوار، ليكون الحلّ يمنياً بامتياز، بعيداً عن أجواء الحرب والغارات الَّتي لم تبقِ من اليمن وبنيته العمرانيَّة والاقتصاديّة إلا القليل.

 

ذكرى الامام الخميني

وأخيراً، لا بدَّ من أن نتوقَّف عند الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني؛ هذه الذكرى التي نستعيد فيها المعاني الإيمانيّة والروحيّة الّتي عاشت حالة الذوبان في الله في أسمى معانيها، وهو ما جسّده الإمام في كلّ مراحل حياته.

ولا بدّ من أن نستحضر في هذه الذكرى الهمّ الوحدويّ الكبير الَّذي كان يعيشه الإمام، حيث كان يدعو المسلمين دوماً، وفي أشدّ المراحل صعوبةً وحساسيةً، إلى أن يتوحّدوا ويكونوا صفاً واحداً في مواجهة أعدائهم، كما يدعو المستضعفين إلى أن يتكاتفوا ليشكّلوا قوةً في مواجهة الاستكبار كلّه والظلم كلّه.

لقد كانت فلسطين دائماً تمثّل البوصلة الّتي تطلّع إليها، واعتبرها القضية الأولى للأمة، وتحمّل لأجلها الحصار وكلّ ضغوط العالم..

إننا في ذكراه، نفتقد هذا الصَّوت الإسلاميّ الّذي عاش الإسلام كلّه. وتبقى الثقة والأمل بأنّ مسيرته لن تتوقَّف، وأنَّ صوته سيبقى هادراً في مواجهة كلّ ظلمٍ وقهرٍ.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله 

التاريخ : 18 شعبان 1436هـ الموافق :5 حزيران 2015م

 

 

Leave A Reply