حرصُ الإسلامِ على العدالةِ والإنصافِ معَ الآخر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8]. صدق الله العظيم.

الحرصُ على العدالة

من الطبيعي أن يحدث هناك اختلاف بين الناس على الصعيد الديني أو المذهبي أو السياسي أو الاجتماعي، أو بفعل الولاء للأشخاص والجهات. لكنَّ الإسلام حرص في توجّهاته على أن لا يصل هذا الاختلاف، مهما كبر أو عظم، إلى الإخلال بالعدالة المطلوبة، بحيث يؤدّي إلى أن لا ينصف أحدهما الآخر، أو يعميه عن أن يرى الإيجابيات التي يتصف بها الآخر، أو الخير الذي بذله أو الحسنات التي قام بها، بل قد يصل به الأمر أن ينتقص منه، وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

وقد جاء في وصية أمير المؤمنين لولده الحسن (ع): "يا بنيّ، أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصَّديق والعدوّ".

وقد ورد في الحديث عن عليّ (ع): "المُؤْمِنُ يُنْصِفُ مَنْ لاَ يُنْصِفُهُ".

وفي حديث آخر عنه (ع): "أعدَلُ الناسِ من أنصَفَ من ظَلَمَه".

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "صل من قطعك، وأعط من حرمك".

من مظاهرِ الإنصاف

وقد أورد القرآن الكريم بعضاً من مظاهر الإنصاف هذه عند حديثه عن اليهود، فالتاريخ المجلَّل بالسواد لبني إسرائيل، وإساءتهم للإسلام، وموقفهم الحاد من المسلمين، والذي وصل أن يقول القرآن الكريم عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ}[المائدة: 82]، لم يمنع كلّ ذلك من إنصافهم والإشادة بمن أحسن منهم. وهذا ما أشار إليه الله عزّ وجلّ عندما قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف: 159]، فهو لم يقل إنَّ كلهم سيّئون، بل قال إن منهم من يهدون إلى الحقّ ويعدلون وأمناء.

وقد ورد هذا الإنصاف في حديثه الإيجابي عن أتباع الديانة المسيحيَّة، رغم إنكارهم لنبوَّة رسول الله (ص) وعدم أخذهم برسالته، نراه عندما يتحدَّث عنهم، يقول ومن موقع الإنصاف: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82].

وهكذا عندما أشار إلى أمانتهم، في مقابل اليهود الَّذين كانوا يرون الحقَّ لهم في استباحة أموال غير اليهود، فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}[آل عمران: 75].

الإنصافُ في سيرةِ الرّسول (ص)

وقد أشارت سيرة رسول الله (ص) إلى العديد من المحطات التي تجلَّت فيها مظاهر الإنصاف لديه.

الأولى: فقد ورد في سيرته (ص) أن درعاً سرقت لأحد المسلمين، فتوجَّه الاتهام إلى رجل من الأنصار، ولما علم هذا الرَّجل أن التهمة ستصل إليه، وأن رسول الله (ص) سيصدر حكمه فيه، رمى بالدرع التي سرقها في دار رجل يهوديّ، وطلب من عشيرته أن يشهدوا ببراءته أمام النبيّ (ص)، وأن يستدلوا على ذلك بوجود الدرّع في دار اليهودي. وفعلاً، أرسل رسول الله (ص) بعضاً من أصحابه إلى بيت اليهوديّ ليتأكَّد من قولهم، فوجدوا الدرع عنده.

عندها، في وفي ضوء هذه البيِّنة الواضحة، لكون رسول الله (ص) كان يحكم بالبيِّنات والأدلة لا بالغيب، برّأ رسول الله الأنصاري وأدين اليهودي بالسرقة.

لكنَّ الله سبحانه لم يشأ أن يمرَّ ذلك، وأراد للعدالة أن تتحقَّق ولو على حساب المسلم، فنزل جبرائيل على رسول الله (ص) ليخبره (ص) بأن اليهودي الذي أدين هو بريء مما نسب إليه، وأنَّ السارق هو المسلم الأنصاري. عندها، أصدر رسول الله (ص) حكمه بتبرئة اليهودي وأدان المسلم، من دون أن يأخذ بالاعتبار أنّ من يبرَّأ هو يهودي ومن اتَّهمه هو مسلم. ولما علمت عشيرة السارق بقرار رسول الله (ص)، جاؤوا إليه وقالوا: تبرّئ يهودياً ونحن أنصارك ومن آويناك وقاتلنا معك وضحَّينا من أجل نصرة دينك؟! لكن رسول الله (ص) لم يلتفت إلى ذلك، وأصرَّ على تبرئة اليهودي، وأن يدين الأنصاري الذي اعترف بذنبه، ليقدِّم أنموذجاً في الإنصاف، وأنَّ العدالة في الإسلام فوق أيِّ اعتبار.

الثانية: وتتصل بالطريقة التي تعامل بها رسول الله (ص) مع سفانة بنت حاتم الطائي، عندما جيء بها أسيرة. يومها، ذكرت لرسول الله (ص) أخلاق أبيها وكرمه، فقال يومها رسول الله (ص) لأصحابه: "خلُّوا عنها، فإنَّ أباها كان يُحِبُّ مكارِمَ الأخلاقِ"، قال ذلك رغم أنَّ أباها كان مشركاً.

الثالثة: حادثة أخرى حصلت مع حاطب بن أبي بلتعة الذي كان من أصحاب رسول الله، عندما عزم النبيّ (ص) أن يدخل مكَّة، يومها، طلب من كلِّ المسلمين أن لا يتحدَّثوا عن ذلك حتى يدخل مكَّة بدون حرب، حفظاً لهذا البلد الآمن.

هذا الصحابي لم يلتزم بهذا التوجه، بل أرسل مع امرأة إلى قريش يخبرهم فيها ما عزم النبي عليه. لما علم النبيّ (ص) بالخبر، أرسل في طلب المرأة قبل أن تصل إلى مكَّة، فاعترفت بوجود الرسالة معها، وأخبرت النبيّ (ص) أنها مرسلة من حاطب بن بلتعة.

فاستدعى النبيّ "حاطب" وقال له: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيَّرت ولا بدَّلت، ولكني كنت امرأً في القوم ليس لي أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم. هنا تدخَّل أحد المسلمين وقال: يا رسول الله، اضرب عنقه، هو خانك وخان الله والمؤمنين.. لكنّ النبيّ (ص) لم ينسَ دور حاطب في معركة بدر وما قام به، ولذلك قال: "لقد شهد بدراً"، وعفا عنه، بعدما نزلت الآية: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التَّوبة: 102].

لتعزيزِ مبدأِ الإنصاف

أيُّها الأحبَّة: إننا أحوج ما نكون إلى تعزيز مبدأ الإنصاف في واقعنا، والَّذي إن جرى الالتزام به، سيجعل الإنسان ينطق عدلاً ويعمل عدلاً ويقضي بين الناس بعدل، مع الصديق والعدوّ، ومع الموافق والمخالف، ومع الحبيب والبغيض، وسيساهم ذلك في إذابة التشنّجات والتوترات والحسابات والأحقاد الَّتي تنتج غالباً من الاختلاف في الدين أو المذهب أو السياسة.

ومع الأسف، فإنَّنا قليلاً ما نلتزم بهذه القيمة، فيكفي أن يختلف أحد مع آخر، أو فريق مع فريق مقابل، حتى ينسى له كلَّ حسناته ويتنكَّر لكل إيجابياته، وحتى تودع فيه سيّئات لم يفعلها، وهو ما يفسِّر لنا تنامي المشاكل والحساسيَّات والأحقاد التي تنتشر في بلادنا، والتباعد بين أتباع الأديان والمذاهب والمواقع السياسيَّة، وفي ذلك إخلال بأهمّ قيمة جاءت لأجلها الرسالات السماويَّة، وهي قيمة العدل.

فلنعمل على إعادة هذه القيمة، وتعزيز حضورها في كلِّ ميادين حياتنا، لنبني مجتمعاً لا يُخضع الحقَّ لحساباته، بل يخضع للحقِّ والعدل.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله (ص) أحد أصحابه، وهو أبو ذر الغفاري، عندما قال له: "يا أبا ذرّ، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية… يا أبا ذرّ، ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار، ومن يكثر قرع باب الملك يفتح له… يا أبا ذرّ، ما من مؤمن يقوم مصلّياً، إلا تناثر عليه البر ما بينه وبين العرش، ووكل به ملك ينادي: يا بن آدم، لو تعلم مالك في صلاتك ومن تناجي، ما سئمت وما التفت… يا أبا ذرّ، طوبى لأصحاب الألوية يوم القيامة، يحملونها فيسبقون الناس إلى الجنَّة، ألا وهم السابقون إلى المساجد بالأسحار وغيرها…".

أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى الأخذ بهذه الوصايا، لنكون أكثر وعياً لأنفسنا، وقرباً من الله، وعملاً برضاه، وأكثر قدرة على مواجهة التحدّيات…

الانهيارُ المعيشيّ!

والبداية مما يتهدَّد اللبنانيين على الصعيد المعيشي والحياتي بفعل الارتفاع المستمر في سعر صرف الدولار الأمريكي على حساب الليرة اللبنانية، والَّذي نرى تداعياته في ارتفاع أسعار السِّلع والموادّ الغذائيَّة والمحروقات وكلفة الدواء والاستشفاء والنقل واحتياجات المواطنين كافّة في بلد مدولر، وحتى عدم توفرها أو النقص فيها. وحسناً فعلت الحكومة بتجميدها القرار الصادر عنها برفع الدولار الجمركي إلى حدود العشرين ألف ليرة، والذي لو طبق كان سيؤدي إلى انفجار اجتماعي. ونأمل أن لا يكون هذا التجميد مؤقتاً وآنياً، لتعاود الحكومة رفعه مجدداً بعد استيعاب ردود الفعل التي حصلت.

ومع الأسف، يجري كل ذلك فيما يستمرّ الانهيار على صعيد خزينة الدولة وعلى صعيد المؤسَّسات، حيث لا يبدو في الأفق حتى الآن أيّ مساعدات خارجيَّة تنقذ الخزينة الفارغة، وبوادر لتشكيل حكومة تدير شؤون البلد في ظلّ الخلاف المستحكم حولها أو حول آليات التشكيل، فيما يتمّ التعامل مع الفراغ كأمر واقع على صعيد رئاسة الجمهوريَّة، لعدم إمكانية التوافق على هذا الرئيس، وعدم قدرة أيّ من المحاور السياسيَّة على فرض خياره، ما يجعل المشهد الَّذي سيحصل بعد خلوّ موقع الرئاسة غامضاً، وقد تكون تداعياته خطيرة وكارثيَّة.

إننا أمام كلّ هذا الواقع الذي وصلت إليه الدولة، والّذي بات يهدِّد كيانها واستقرارها، وأمام الواقع الصعب الذي بات يعانيه اللبنانيون، ويتهدَّد حياتهم وأمنهم واستقرارهم، نجدِّد دعوتنا إلى كل من يديرون الواقع السياسيّ، بالخروج من حالة الإنكار لكلِّ ما يجري، والتعامل مع البلد وكأنه بألف خير، إلى العمل بكل جدية ومسؤولية، لإخراجه من حال الانهيار الذي وصل إليه. وكما قلنا سابقاً، نقولها اليوم: أنتم قادرون إن خرجتم من حساباتكم الضيِّقة وأنانيتكم ومصالحكم الخاصَّة.

ومن هنا، فإننا نجدِّد دعوتنا في هذه المرحلة إلى الإسراع بتأليف حكومة قادرة على تلبية احتياجات المواطنين الملحَّة والأساسية، وملء الفراغ الرئاسيّ، وإنقاذ البلد من الانفجار الاجتماعي والسياسي المحتمل.

معَ مطالبِ القضاة

ونبقى على صعيد ملفَّات الداخل، لنجدِّد وقوفنا مع مطالب القضاة المعتكفين بتحسين رواتبهم، وسدّ حاجاتهم، لحرصنا على قضاء عادل ونزيه وبعيد من الارتهان، حيث لا يمكن الاطمئنان إلى قضاء إذا كان من يتولّونه لا يملكون القدرة على تأمين العيش الكريم لهم ولأولادهم، ما قد يهدِّد مناعتهم واستقلاليتهم وعصاميتهم التي ينبغي أن يتحلَّوا بها، وحيث لا استقرار لبلد ولا أمان فيه ولا اقتصاد ولا سياسة بدون هذا القضاء…

لإنقاذِ العامِ الدراسيّ

ونبقى على الصعيد التربوي، لندعو إلى ضرورة العمل سريعاً لإنقاذ العام الدراسي مما قد يتهدَّده، إن على صعيد المدارس التي باتت غير قادرة على النهوض بأعبائها المتزايدة، ولا سيَّما توفير رواتب المعلمين، أو على صعيد عجز المواطنين عن دفع الأقساط المطلوبة منهم لتعليم أولادهم، ما يتطلَّب من أجهزة الدولة ووزارة التربية وكلّ الحريصين على بناء هذا الوطن، بذل كل الجهود الممكنة لمساعدة المؤسَّسات التعليمية لأداء دورها، وبالكلفة التي يستطيع اللبناني تحمّلها لتعليم أولاده، وإلَّا فقدت الدولة دورها على صعيد التعليم والتربية وبناء الأجيال.

ملفُّ ترسيمِ الحدود

ونصل إلى مسألة ترسيم الحدود البحرية، حيث يستمر العدو بسياسة المماطلة في الإجابة عن الشروط اللبنانية، ويقرن ذلك بالتهديد إن طالب لبنان بحقّه بأن لا استخراج للغاز إن لم يحصل لبنان على حقّه.

ونحن على هذا الصعيد، لا زلنا نقف مع أيّ جهد يبذل لأجل إيجاد حل يضمن حقوق اللبنانيين كاملة، لكنَّنا في الوقت نفسهن ندعو إلى الحذر والجهوزية من مغامرات قد يقدم عليها هذا العدوّ لحرمان لبنان من حقه.

وفي الوقت نفسه، نشدِّد على إبقاء الموقف اللبناني موحَّداً، والكفّ عن كلّ ما يؤدّي إلى إضعافه أو منعه الاستفادة من مواقع القوَّة التي يملكها.

ذكرى جريمةِ العصر

وأخيراً، نلتقي بالذكرى السنويَّة الرابعة والأربعين لجريمة العصر، وهي اختطاف الإمام السيّد موسى الصَّدر ورفيقيه، الذي كان من الواضح أنَّ المراد منه استهداف الخطّ الذي رسمه، والَّذي عبَّر عنه في موقفه الصلب في مواجهة الفتنة الداخلية والحرمان والفساد والاحتلال.

إننا سنبقى نرى في تغييب هذه الشخصية جريمةً تطاول كلّ الطوائف والمذاهب وكلّ المواقع السياسيَّة، ومن مسؤوليّة الجميع بذل الجهود للكشف عن الغموض الَّذي لا يزال يلفّ هذه القضيّة، والوفاء لكلّ التوجهات والمعاني والقيم التي عمل من أجلها، لرفع الحرمان ودعم المقاومة وتعزيز العلاقات العربية الإسلامية.