ذكرى ولادة الإمام الحجَّة: مناسبة لتوحيد الجهود بين المسلمين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

في ليلة الخامس عشر من شهر شعبان، سيكون موعدنا مع ليلة هي أفضل اللّيالي بعد ليلة القدر، ليلة يمنح الله فيها العباد فضله، ويغفر لهم بمنّه، ليلة آل الله عزّ وجلّ على نفسه، أن لا يردّ فيها سائلاً، ما لم يسأل المعصية، وذلك حسب ما ورد في الأحاديث عن فضل تلك اللّيلة في كتب المسلمين سنّة وشيعة.

إحياء النّصف من شعبان

وكان(ص) يحرص على إحياء ليلة النّصف من شعبان بالعبادة. وتصف إحدى زوجاته ذلك الإحياء فتقول: افتقدت رسول الله منتصف ليلة الخامس عشر من شهر شعبان، فوجدته في إحدى زوايا البيت ساجداً، وهو يقول في سجوده: "سجد لك سوادي وخيالي (فكري وعقلي)، وآمن بك فؤادي، ربّ هذه يداي وما جنيت على نفسي، يا عظيماً يرجى لكلّ عظيم، اغفر لي الذّنب العظيم، إنّه لا يغفر الذّنب العظيم إلا الربّ العظيم". ثم رفع(ص) رأسه وأهوى ثانيةً إلى السّجود وقال: "أعوذ بنور وجهك الّذي أضاءت له السّماوات والأرضون، وانكشفت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الأوّلين والآخرين، من فجأة نقمتك، ومن تحويل عافيتك، ومن زوال نعمتك.. اللّهمّ ارزقني قلباً تقيّاً نقيّاً من الشّرك، بريئاً لا كافراً ولا شقيّاً"… ثم عفَّر خدَّيه بالتّراب وقال: "عفَّرت وجهي بالتّراب، وحقٌّ لي أن أسجد لك".

وتكمل زوجته قائلةً إنّ رسول الله لم يزل يدعو ويصلّي ويذكر الله ويقرأ القرآن طوال اللّيلة، لا يكلّ ولا يملّ، حتّى طلع الفجر.

ولأنّ لنا في رسول الله أسوة حسنة، فلنقتدِ به، ولنغتنم، أيّها الأحبّة، فرصة هذه اللّيلة، فلا تضيع منّا بركاتها وخيراتها، ونحن أحوج ما نكون إليها، وكلّنا بحاجة إلى تعزيز علاقته بالله، وبلوغ ثوابه، والتضرّع إليه، ليكشف عنّا كربنا، ويفرّج همومنا، ويجعل مستقبل أيّامنا خيراً من ماضيها. والله يتقبّل من الجميع، إنّه سميع مجيب.

حقيقة المهديّ المنتظر

وما يضاعف اهتمامنا بليلة النّصف من شعبان، ويجعلها ذات أهميّة خاصّة بالنّسبة إلينا،  أنّها اللّيلة الّتي ولد فيها صاحب العصر والزَّمان، الإمام المهدي، أرواحنا لمقدمه الفداء، والّذي لا تنقطع ألسنتنا عن الدّعاء لله سبحانه في أن يعجّل فرجه، ويسهّل مخرجه، حتّى يتغيّر واقعنا وتزول معاناتنا.

فمع الإمام المهدي(عج)، نقترب من لحظة الحقيقة المطلقة لمسار الإنسانيّة ولحظة الاستخلاف في الأرض، حيث يحطّ العالم رحاله على شواطئ العدل والأمن والسّلام، وهذه نهاية طبيعيّة يسير الكون وفقها. ولا يمكن، أيّها الأحبَّة، في مسار هذه الحياة، إلا أن يتغلّب العدل على الظّلم، ولا بدَّ للخير من أن ينتصر على الشّرّ، ولا بدَّ للنّور من أن يتغلّب على الظّلمة، والصّلاح على الفساد.

أمّا استدلالنا، فهو وعد الله لعباده، وذلك عندما قال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}[النور: 55]، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء: 105]، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].

مسيرة مستمرّة

أيّها الأحبّة: إنّ إيماننا بالإمام المهدي ينطلق من كونه الإمام الثّاني عشر من أهل البيت(ع). ونحن دائماً نقول إنّ من أراد أن يفهم إيماننا بالمهدي، عليه أن يفهم إيماننا وارتباطنا بأهل بيت الرّسول(ص)، فإيماننا بالإمام المهدي ينطلق من إيماننا بالدّور المستمرّ لأهل البيت(ع) في هذه الحياة، وهو دور لم ينقطع ولا ينقطع، حيث يقول(ص): "‏إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"…

وأهل البيت يُقصد بهم أولئك الّذين أجمع مفسّرونا على أنّهم الّذين تحدّث الله عنهم في القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.. فعدم الافتراق بين القرآن وعترة الرّسول، نفهمه استمراراً لوجودهم، وعدم خلوّ الأرض من الإمامة، فالقرآن وعترة الرّسول يستمرّان عابرين لكلّ الزّمن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومسيرة الإمامة  ستستمرّ متمثّلةً في هذا العصر وحتّى يوم الدّين بالإمام المهدي.

منطق مردود

أيها الأحبّة: قد يختلف المسلمون حول شخص الإمام المهدي، فمنهم من يقول إنّه ولد في سامرّاء في العام 255هـ، وهو ابن الإمام الحسن العسكري، وغاب ومازال، إلى أن يأذن الله له بالخروج.

بينما يرى آخرون، كما هو رأي أهل السنّة، أنّه لم يولد بعد، وأنّه سيخرج في مرحلة من الزّمن، وستصاحب خروجه علامات أشارت إليها روايات عندهم، وقد تلتقي بروايات عندنا.

إلا أنَّ الجميع يلتقون عند حقيقة المبدأ والمسار الّذي يشير إليه الرَّسول(ص)، إذ يقول: "لو لم يبقَ من الدّنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يملك رجل من أهل بيتي، تجري الملاحم على يديه، ويظهر الإسلام، والله لا يخلف وعده، وهو سريع الحساب".

 تعالوا، أيّها الأحبّة، نجعل من هذه الذّكرى مناسبة لتوحيد جهودنا، فنهيّئ لهذا الإمام الأرضيّة الّتي تؤمّن له تحقيق هذا الهدف الكبير، ألا وهو تحقيق العدل الشّامل.

وقد شاع نمط من التّفكير عند البعض في هذا الشّأن، يعتمد على مقولة إنّ الإمام هو بغنى عن كلّ جهودنا، لأنّه سيأتي بالمعاجز الّتي يجريها الله على يديه، والّتي ستقلب كلّ المعادلات بكبسة زرّ.

هذا المنطق مردود، ونردّ عليه بقولنا إنّ هذه الحركة الرّساليّة المعزولة والمدعومة مباشرة من الله، والمنفصلة عن أرض الواقع، هي حركة كان الأنبياء والرّسل أولى بها، ولكنَّنا نعرف أنّ هذا لم يكن دأب كلّ الأنبياء والرّسل والأئمّة الّذين عانوا ما عانوه في سبيل الرّسالة، وطلبوا من النّاس مساعدتهم لتسهيل مهمّتهم. لهذا أيضاً، فإنّ الإمام المهدي سينتظر جهود العاملين والعلماء والرّساليّين وتضحياتهم، وسيبني عليها لتحقيق كلّ أهدافه وطموحاته.

دور العلماء في ظلّ الغيبة

أيّها الأحبّة: نحن نعتبر أنّ الإمام المهدي لم يتحقّق غيابه إلا بعد أن تأهّلت الأمّة وأصبحت قادرةً على متابعة طريقها الفكريّ والعمليّ، من خلال الزّاد الّذي تركه رسول الله(ص)، وهو الأئمّة من بعده، وهذا ما نفهمه من قوله(عج): "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم".

فرواة الأحاديث، أي العلماء، معنيّون بأن يكونوا حاضرين دائماً في السّاحة، ليحوّلوا هذه النّصوص الموجودة إلى أحكام، وليطبّقوا ما ورد منها على الوقائع الجديدة.

ومن هذا الموقع، حدّد الإمام شروط الاختيار للعلماء، وحرص على التّذكير الدّائم باختيار علماء التّقى والإصلاح، وهو ما كان والده الإمام الحسن العسكري(ع) أكّده دائماً، بقوله: "فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه"…

وهذا ما أكّده حديث رسول الله(ص): "الفقهاء أمناء الرّسل ما لم يدخلوا في الدنيا"، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدّنيا؟ قال: "اتّباع السّلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم".

هؤلاء العلماء لا يكفي أن يملكوا علماً فحسب، بل لا بدّ من أن يكونوا ربّانيّين، لا يَخافون لوْمة لائِم، وهم الّذين لا تزيدهم كثرة النّاس حولهم عزّةً، ولا تفرّقهم عنهم ذلّة. هم الّذين يرابطون في الخطّ الإيمانيّ في مواجهة كلّ انحراف فكريّ وعقيديّ، ويقدّمون للأمّة غذاءها الفكريّ والرّوحيّ والعمليّ نقيّاً صافياً لا تشوبه شائبة. فمثل هؤلاء ينبغي أن تتطلّع إليهم الأمّة، ليكونوا قادتها والسّبيل لحلّ مشاكلها، وليس كما هو حاصل لدى البعض بأنّهم سبب لأزماتها وفتنها…

ومن جهتنا، سنظلّ نقول كمحبّين وموالين: ينتظرنا الكثير من العمل، وأوّل أمر أنّنا لن ننتظره انتظار الباحثين عن علامة هنا أو هناك، لأنّ هذا ليس عملنا، فمسألة وقت خروج الإمام يحدّده الله، فلنتركها لله وحده، ولنلتفت إلى مسؤوليّاتنا بأن نحفظ الإسلام ونبقيه حيّاً حاضراً في حياة النّاس وواقعهم، وأن نعدّ أنفسنا لنكون، عندما يظهر، من قادته ودعائمه والملتزمين بما دعا إليه، وليكن هذا الدّعاء خطّة عملنا، ووثيقة نشهد الله عليها، ونعمل لأجلها.

ندعو الله تعالى بكلّ إخلاص وصفاء ووعي وقصد لما نقول: "اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدّنيا والآخرة".

لنعبّر، أيّها الأحبّة، عن ولائنا لهذا الإمام، ولنجدّد بيعتنا له في يوم ولادته: "اللّهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه السّاعة وفي كلّ ساعة، وليّاً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتّى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتّعه فيها طويلاً، برحمتك يا ارحم الرّاحمين".

السّلام عليك يا صاحب الزّمان، السّلام عليك يا خليفة الرّحمن، السّلام عليك يا مظهر العدل والإيمان، عجّل الله فرجك، وسهّل مخرجك، وجعلنا من أنصارك وأعوانك المستشهدين بين يديك.

والسّلام عليك وعلى آبائك الطّاهرين ورحمة الله وبركاته…

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، ولبلوغ التّقوى جيّداً، علينا أن نعي مغزى ما قرأته في أحد الكتب من كلامٍ لأحد كبار السياسيّين الغربيّين… قال وهو يتحدَّث عن العالم العربي والإسلامي: حين خرج العرب المسلمون من بلادهم مجاهدين متوحّدين، اتّجهت جماعةٌ منهم شرقاً إلى الإمبراطوريّة الفارسيّة، واحتلّت ما يعرف اليوم بأفغانستان وسهول شمال الهند، واتّجهت جماعة أخرى شمالاً فوصلت إلى حدود الصّين، واتّجهت جماعة ثالثة إلى الغرب، فاستولت على سوريا وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا، ثم قطعت جبل طارق، لتقف على بعد 250 ميلاً من شواطئ إنكلترا.. وهكذا في زمن قصير، نجد أنّ هؤلاء القوم استطاعوا أن يهزموا أقوى قوَّتين في عصرهم، هما الإمبراطوريّة البيزنطيّة والإمبراطوريّة الفارسيّة، ليقيموا إمبراطوريّة تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى حدود الصّين… وفي هذه الفترة من التّاريخ ،كانت أوروبّا تتطلّع إلى الإمبراطوريّة العربيّة ،كما يتطلّع العرب اليوم إلى أوروبّا وحداثتها وتطوّرها.

فقد كانت تلك الإمبراطوريّة هي مركز الصّناعة والعلوم والآداب والتّجارة، وكانت هي المسيطرة بنفسها على البحار المعروفة، حتّى قال أحد الكتّاب إنّه لم يكن أيّ أوروبّيّ في ذلك العهد يستطيع أن يسير في البحر المتوسّط، حتّى لو أراد الإبحار على لوح من خشب، إلا بإذن العرب، وعندما كانت أوروبّا تريد أن تحصل على أيِّ نوع من المصنوعات، كان عليها أن تشتريه من البلاد العربيّة.

أيّها الأحبَّة، هل درسنا جيّداً كلّ الأسباب الّتي جعلتنا ليس فقط أن نفقد كلّ هذا التّاريخ المجيد، بل أن نتراجع بعيداً إلى الوراء، رغم كلّ ما نملك من مقدّرات؟!

بالطّبع، ليس الإسلام هو السَّبب في كلِّ ما وصلنا إليه، فهو من بعث في الأمّة الفاعليَّة والحيويَّة والحضور في كلّ الميادين. المشكلة هي فينا عندما تركنا ديننا وقيمنا، وسرنا وراء عصبيّاتنا وحساسيّاتنا وأنانيّاتنا، ودخلنا في أتون الصّراع والفتن، فتشتّتت جهودنا، وأصبحنا لقمنا سائغة بيد الآخرين، ننتظر فتات موائدهم…

أليس ما يجري في واقعنا يؤكّد هذه الصّورة، حيث لا تزال المنطقة العربيّة والإسلاميّة على حالها، تعاني سياسة استكباريّة قديمة جديدة، لا تريد لها الاستقرار، وتبقيها في دائرة الفتن المتنقّلة والصّراعات المتعدّدة الأوجه، والهدف هو استنزاف مواردها وكلّ مواقع القوّة فيها، لكي تحافظ هي على مصالحها في الإطباق على ثروات المنطقة، بينما يشعر الكيان الصّهيونيّ بالأمن، ويحقّق مشاريعه الاستيطانيّة، ويستمرّ في تهويد فلسطين والقدس وتنفيذ مشروعه المستمرّ في هدم المسجد الأقصى، لبناء هيكله المزعوم على أنقاضه، بعد أن أعدّت الخرائط اللازمة له؟!…

 ومع الأسف، يستفيد هؤلاء كثيراً من التخلّف الموجود في هذه المنطقة، ومن طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، حيث اللّغة المتداولة هي رفض الآخر المختلف وتدميره وإلغاؤه، بدلاً من استخدام لغة الحوار ومدّ جسور التّواصل معه.

سوريا: تأجيج الأزمة

وهذا لا يقف عند حدود التّكفيريّين الإلغائيّين والإقصائيّين الّذين نعاني منهم الآن، بل حتّى في المواقع الدّينيّة والسياسيّة الأخرى، فما إن يحصل الاختلاف، حتّى ترفع المتاريس، وتصبح اللّغة هي لغة قتل الآخر وتدميره، وهذا الأسلوب التّدميريّ هو الّذي ما زلنا نعانيه في سوريا، حيث يستمرّ نزيف الدّم فيها، إلى جانب الدّمار الهائل لمدنها وقراها وأحيائها ومصانعها وقواها العسكريّة. أمّا القوى الاستكباريّة، ففي الوقت الّذي نرى أنّها لا تستعجل الحلول في قمّة الثّماني الكبار، نلاحظ أنّها تعمل على صبّ الزّيت على النّار المشتعلة، من خلال الحديث المتكرّر عن الرّغبة بتزويد المتقاتلين بأسلحة متطوّرة، وهي تساهم، بالطّبع، في زيادة تأجيج الصّراع، فيما تنعدم لغة الحوار والتّنازلات لحساب الوطن، وتستبدل بلغة الحسم العسكري والحسم المضادّ الّذي لن يحصل في ظلّ التّجاذب الدّولي والإقليمي الرّاهن.

ومن هنا، تبقى دعوتنا المستمرّة إلى الحوار، فهو الوسيلة الفضلى لإخراج سوريا من أزمتها، وهو الردّ على السياسات الاستكباريّة القائمة على استنزاف المنطقة.

العراق: لغة التّفجير

هذا الاستنزاف نراه أيضاً في العراق، الّذي لا يزال شعبه، كلّ شعبه، يعيش معاناة التّفجيرات الوحشيّة المتنقّلة الّتي تحصد في كلّ شهر آلاف الضّحايا والجرحى، والهدف واضح، وهو تأجيج فتنة مذهبيّة وطائفيّة، لا تسمح للعراق بالاستقرار والتطوّر، وتبقيه في دائرة الاستنزاف لقدراته. هذا الأمر بات يستدعي استنفاراً لجهود كلّ القوى السياسيّة والمواقع الدينيّة، للحوار فيما بينها، والخروج بصيغة تحاصر كلّ الّذين يريدون العبث بأمن هذا البلد وتطوّره ونموّه.

وهذا الاستنزاف يطغى على العلاقات المتوتّرة بين الدّول العربيّة والإسلاميّة، حيث لا يزال بعضها يكيد لبعض، ويقاتل بعضها البعض الآخر وإن بشكلٍ غير مباشر، ويسعى بعضها لإسقاط بعضها الآخر، ما يؤدّي إلى حدّ القطيعة التامّة بينها، كما حصل أخيراً في قطع مصر علاقتها مع سوريا، في الوقت الّذي كنّا نأمل من مصر أن تلعب دوراً في حلّ الأزمة في سوريا، وإطفاء النّيران فيها بدلاً من تأجيجها…

إنَّ المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة هي أحوج ما تكون إلى العقلاء والواعين والحكماء والعلماء الربّانيّين، وتحتاج أيضاً إلى الإنسان الواعي الّذي يدقّق فيما يقرأه وفيما يسمع وفيما يرى، في مرحلةٍ تُصنَع الأخبار والأحداث، وتزوّر الصّورة والأفلام الّتي يتناقلها النّاس بعفويّة وبدون تدقيق، وتقدّم فيها الوقائع لخدمة مصالح متعدّدة. ومن هنا، نقول للجميع: شكّكوا في كلّ خبر تسمعونه، وفي كلّ فيلم فيديو يصل إليكم، وفي كلّ تصريح، وفي كلّ تحليل تقرأونه، فلا تتسرّعوا بأخذه والبناء عليه ونقله، واستمعوا جيّداً إلى كلام الله وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]، وكلّ دعاة الفتنة هم فاسقون.

لبنان: واجب لجم الفتنة

أمَّا لبنان، فإنَّ الفتنة تطلّ برأسها فيه، من خلال الحوادث الأمنيّة المتنقّلة بين مناطقه، وليس آخرها ما حصل في البقاع وما حصل في صيدا، وما قد يمتدّ إلى كلّ مكان في أيّ لحظة، فالتشنّج على أشدّه، والخطاب السياسيّ، وحتّى الدّينيّ، في أعلى توتّره، ما بات يستدعي وعياً متزايداً من اللّبنانيّين، حتّى لا يسمحوا للسّاعين لنشر الفتنة بأن يجدوا أرضاً خصبة لهم، وبيئة حاضنة لمشاريعهم، بل أن يشعروا بأنّهم معزولون، لا تحميهم طوائفهم ولا مذاهبهم ولا مواقعهم السياسيّة والدّينيّة والعائليّة والعشائريّة، وبأنَّ الكلام الفتنويّ والممارسات الموتورة، مهما علا سقفها، سوف تبقى محاصرة. وأيضاً لا بدَّ من أن يعمل الجميع لكشف خيوط الجرائم الّتي تحصل في هذه المنطقة أو تلك، وآخرها الجريمة الّتي حصلت في البقاع، والّتي ـ مع الأسف ـ باتت تأخذ طابعاً مذهبيّاً وطائفيّاً، ولا بدّ من اعتبار أنَّ أيَّ جريمة تمسّ أبناء هذا المذهب أو هذه الطّائفة، تمسّ المذهب الآخر والطّائفة الأخرى أيضاً… فلا تترك السّاحة للمتشنّجين والمتعصّبين الّذين يحسنون الاصطياد في الماء العكر… كما ندعو كلّ الفاعليّات والقوى السياسيّة وغير السياسيّة، إلى تأمين الغطاء اللازم للجيش، لكي يقوم بدوره في الحفاظ على أمن الجميع، فلا يضطرّ الجيش، وحفظاً لدوره، إلى التّغاضي عن مسلّحين هنا وهناك، على أساس السياسة اللّبنانيّة القائمة على 6 و6 مكرّر.

ونحن في الوقت الّذي نقدّر كلّ الجهود الّتي بذلت وتبذل لمنع حصول فتنة في البقاع وصيدا وغيرهما من العشائر والفاعليّات الدّينيّة والسياسيّة والحزبيّة، فإنّنا على ثقة بأنّ وعي اللّبنانيّين الّذين جرّبوا الفتن طويلاً، لن يشرعوا للدّخول فيها، ولن يسمحوا لغرائزهم الطائفيّة والمذهبيّة بالانفلات، وسيفوّتون على دعاة الفتنة الاصطياد في الماء العكر والعبث بأمن النّاس.

وفي هذا المجال، نحن مدعوّون في هذا الوقت أكثر من أيّ وقت مضى، إلى أن تسير عجلة مؤسّسات الدّولة، وأن تنطلق بسرعة، لا أن تبقى كما هي في دائرة المراوحة، نتيجة تجاذبات المواقع العليا والمواقع السياسيّة وصراعاتها، كي لا يقع لبنان فريسة الفراغ الأمني والسياسي والسقوط الاقتصاديّ المنتظر.

أيّها المسؤولون، إنّ مواقع المسؤوليّة الّتي تحتلّونها ليست ملكاً لكم، هي أمانة أنتم وصلتم إليها لخدمة النّاس، لا لخدمة مواقعكم الشخصيّة وطموحاتكم الذاتيّة… فقوموا بواجباتكم، وإلا وفّروا على هذا البلد مزيداً من المآسي، أو ارحلوا عنه.
 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ: 12 شعبان 1434 هـ  الموافق: 21/06/2013 م

Leave A Reply