رسالة الإيمان: كن واعياً واختر طريق الفلاح

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح… نداء يتردّد خمس مرّات في كلّ يوم من حناجر المؤذّنين والمصلّين، نداء هو دعوة من الله لعباده المؤمنين للسّعي والإسراع نحو الفلاح، نحو الهدف الأسمى، نحو الغاية والمطلب لكلّ مؤمن يوقن بلقاء ربّه، ويدرك أنّ هذه الحياة الدّنيا هي دار ممرّ, وأنّ الآخرة هناك هي المستقرّ.

هذا، وقد وردت كلمة الفلاح في القرآن الكريم أربعين مرّةً بأكثر من صيغة، والصّيغ الّتي ارتبطت بالفلاح في الآيات، وحتّى في الأحاديث الكثيرة، لم يقتصر مضمونها على التعبّد وذكر الله والإيمان به وبباقي الجانب العقيديّ، إنّما طالت سلوك الإنسان في كلّ مناحي الحياة. فحصاد المؤمن من مواسم عطائه وعبادته، هو حصاد مطلق، حصاد لا يتجزّأ، هو سعادة واطمئنان في الدّنيا، وفلاح وثواب في الآخرة.

والفلاح في اللّغة ليس لقطة نجاح أو ربح في زمن أو مكان ما، وليس ثروةً جُمعت ولا منصب أو موقع، ولا هو قصر أو ممتلكات، بل هو مسار ممتدّ من الولادة حتّى الممات.. في اللّغة، الفلاح هو الشقّ والفوز، ومن هنا يقال فلح الأرض، أي شقّها لرمي البذور فيها. وأفلح الإنسان، أي فاز ونجا وظفر بما يطلب ويجلب له الخير.

إنّ العلاقة واضحة بين عبادة المؤمن وسعيه وكدحه إلى ربّه، وبين عمل الفَلاّح وكدحه لتأمين لقمة عيشه. الفَلاّح، هو من يشقّ الأرض، يحرثها، يعتني بها، ليرمي في أثلامها بذوره، وكلّه رجاء وأمل في أن يُحصّل لعياله موسماً جيّداً. فالمنطلق واحد: كدّ وسعي، والأسلوب واحد: زراعة بذور لنيل موسم حصاد جيّد.

وكم هو جاهل وغبيّ وظالم لنفسه، إذا اختار الفَلاّح بذوراً لا يثق بجودتها، ويعرف أنّها قد لا تثمر، أو إذا رمى بذوره في أرض ميتة أو صخريّة. فَلاّح كهذا، لن يحصد غير الخيبة والخسارة، وهكذا هو الإنسان الّذي يغفل عن نفسه وعن ربّه، ويغفل عن أنّ "الدّنيا مزرعة الآخرة"، كما ورد عن رسول الله(ص).

أمَّا الّذي يتبع نهج المفلحين الّذي رسمه لنا القرآن، فإنَّه مثل ذلك الزّارع العاقل، وحصاده المأمول والمُرتجى معلوم ومعروف ولا شكَّ فيه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 8].

سؤال يسأله كلّ من يسمع "أولئك هم المفلحون": كيف أكون واحداً منهم؟ سؤال يشكّل نقطة البداية للالتحاق بركب هؤلاء. وجوابه في حديث رسول الله، إذ يقول(ص): "قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليماً، ولسانه صادقاً، ونفسه مطمئنّة، وخليقته مستقيمة، وأذنه مستمعة، وعينه ناظرة"… وجوابه في حديث عليّ(ع): «من غلب عقله هواه أفلح.. أطعِ العلم واعصِ الجهل تُفلح».

وأنت عندما تجعل إيمانك بهذه المواصفات، عندها سترى طريق الفلاح بيّناً واضحاً، وتسلكه مطمئنّاً، وكلّ محطّات حياتك وكلّ مواقفك ومنطلقاتك، تقيمها تحت شعار: "لعلّني أكون من المفلحين".

ويُعلّمنا القرآن الكريم فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 35].

الوسيلة هي الطّريق، أو الأسلوب، أو أيّ أمر يُمكن أن يُقرّبك ممّن تُريد التقرّب منه. والله عزّ وجلّ ليس زعيماً وجيهاً، يُجبرك على أن تريق ماء وجهك كي تتقرّب منه، الله عزيز وغنيّ عن عباده، ولا يُريد لهم سوى العزّة والكرامة والخير والصّلاح. لهذا، فإنّ أيّ فعل أو قول يقع تحت عنوان العمل الصّالح، هو وسيلة صالحة تؤمّن لك الوصول إلى ساحة رحمته، المهمّ أن تبدأ الكدح في رحلتك إلى الله.

أنت لست مكرهاً لتكون من المفلحين أو المؤمنين، ولا أحد يحمل سوطاً ويكرهك على الكدح لوجه الله. هذا شأنك، وهذا خيارك، وبيدك الخيار لتكون ما شئت، لكنّك لن تستطيع أن تُسكت هواجسك وقلقك وأسئلتك، كلّما خلوت إلى نفسك أو كلّما مرّ الموت من أمامك، وما أكثره هذه الأيّام: ماذا بعد الموت؟ وهل يستأهل هذا أن آخذ احتياطاتي بأن أتهيّأ.. بأن أتحضّر.. أتزوّد…؟ الأمر متروك لك.

أيّها الأحبَّة: الأرض كالعمر، والعمر كأرض في عهدتك، فإذا تركت أرضك بوراً، فإنّها ستشكوك إلى الله، وتقول لك: ضيَّعتني ضيَّعك الله. وكذلك سيشكوك عمرك إلى الله في كلّ دقائقه وثوانيه، بكلّ شبابه وشيبه، وستُسأل عنه فيما أفنيته وأبليته..

فمن كان ديدنه الغشّ أو الكذب أو النّفاق أو الظّلم، فلا مكان له بين المفلحين، فالله يقول في كتابه العزيز: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام: 21]، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}[يونس: 17]، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنون: 117]، {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}[يونس: 69].

أمَّا الإنسان العاقل، فهو من يوظّف رصيد عمره في طاعة الله، فهذا الرَّصيد قابل للنّفاد في أيّ لحظة، ومتى أُقفل، فإنَّ قوّة الأرض كلّها لن يمكنها أن تجدِّد لك فيه أو تطيله ولو ثانية.

والعاقل من لا يضع قدماً في البور وقدماً في الفلاحة، ظنّاً منه أنّه يستطيع الجمع بين التجارة مع الله والتّجارة مع غيره طمعاً في زيادة أرباحه.

المفلحون تراهم في الّذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزّكاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…

تراهم في الذّاكرين والشّاكرين والمستغفرين بالأسحار…

تراهم في الّذين هم في صلاتهم خاشعون، وللزّكاة فاعلون، وعن اللّغو معرضون…

تراهم في من هم لأماناتهم وعهدهم راعون، وعلى صلواتهم يحافظون.

تراهم في الّذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم…

تراهم في الّذين لا يأكلون الرّبا أضعافاً مضاعفةً بغية الرّبح ولو على حساب تعب الآخرين ومعاناتهم.

تراهم في من يصبرون ويصابرون ويرابطون في سبيل الله…

تراهم في المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم…

تراهم في الثّابتين الرّاسخين المتجذّرين في إيمانهم، مهما كبرت التحدّيات وبهظت أثمان­ الإيمان، ومهما كان الألم عظيماً ومهما ثخنت الجراح…

فالثّبات على خطّ الفلاح يُختبر في الأزمات وفي البلاء والشدّة، والمؤمن الثّابت يتحمّل كلّ هذا لأنّه يرى النّتيجة أمامه، يرى حصاد عمره أمامه وفيراً، يرى ثقل موازينه، يرى نفسه وهو يؤتى كتابه بيمينه، يرى كيف تستقبله الملائكة، وكيف يساق إلى الجنّة زمراً مع إخوانه المؤمنين، يفتح لهم خزنتها أبوابها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزّمر: 73]، {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النّحل: 32].

أيّها الأحبّة: إنّ رسالة الإيمان واضحة ولا لبس فيها: كن واعياً واختر طريق الفلاح. فالدّين ليس ثوباً نرتديه، الدّين حبّ وحياة صالحة، ومعاملة ونصيحة، ورفق وعصمة واستقامة، وهو إلى ذلك صمّام أمان لعيش كريم، هو حرب ضدّ الحقد والبغض والفساد والانحراف، وثورة من أجل الحياة وبناء الحياة.

أعاننا الله على ذلك، وهذا هو الفلاح المبين.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ومن التّقوى، أن نستهدي بمنهج الإمام جعفر الصّادق(ع)؛ هذا الإمام الَّذي ملأ الحياة الإسلاميَّة علماً وفقهاً ووعياً وانفتاحاً وحواراً، حيث كان مسجده؛ مسجد الكوفة، مقصداً لكلِّ العلماء من شتّى المذاهب، فتتلمذ عليه عدد من أئمَّة المذاهب الإسلاميّة، فأبو حنيفة، إمام المذهب الحنفيّ، يقول: "لولا السَّنتان لهلك النّعمان". ومالك بن أنس، إمام المذهب المالكيّ، يقول: "ما رأت عين، ولا سمعت أُذُن، ولا خطر في بال بشر، بأنَّ هناك أفضل من جعفر بن محمد الصّادق علماً وعبادةً وزهداً وورعاً".

وقد تميّز هذا الإمام(ع) بأسلوبه الحواريّ الَّذي جعله مهوى أفئدة كلّ الناس، وبكلِّ تنوّعاتهم، حيث ترك أثره حتّى في الملحدين ممن لم يلتزموا بدينٍ سماويٍّ. فهذا المفضّل بن عمر، وهو أحد أصحاب الإمام الصَّادق(ع)، عندما سمع ابن العوجاء الإلحاديّ يتحدَّث بالكفر، غضب، وكان غضبه لدينه، وقال له كلاماً قاسياً ردّاً على كفره، فلم يكن من ابن العوجاء إلا أن قال له: "إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصّادق، فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يُجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمِعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحليم الرّزين العاقل الرّصين، يسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويتعرّف حجّتنا، حتّى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننّا أنّا قطعناه، دحض حجّتنا بكلام يسير هادئ، فلا نستطيع بعدها لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه، فخاطبنا بمثل خطابه".

منطق القوَّة يهدِّد سوريا

أيُّها الأحبَّة، إنَّنا بحاجةٍ، ونحن نستعيد ذكرى وفاة الإمام الصَّادق(ع)، الّتي تمرُّ علينا في الخامس والعشرين من شهر شوّال، إلى أن نركِّز على الانفتاح الَّذي عاشه الإمام(ع) في الواقع الإسلاميّ، وأن نتمسَّك بأسلوبه الحواريّ، كي نخرج من كلّ واقعنا المتشنِّج والصَّاخب، وأن نبتعد عن الكلام العقيم الَّذي يسهم في تأزيم واقعنا الوطنيّ والإسلاميّ، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون إلى الوحدة الداخليَّة الَّتي تجعلنا قادرين على مواجهة التَّحدّيات والأزمات الكثيرة الَّتي تعصف بواقعنا الداخليّ والخارجيّ، حيث تنشدّ الأنظار في هذه الأيّام إلى سوريا، ترقّباً لضربةٍ عسكرية محتملة من أميركا وبعض دول الغرب، بعد أن أصدرت اتهامها للنّظام باستخدامه السّلاح الكيميائي، وحتّى قبل صدور تقرير لجنة التحقيق الدوليَّة، حيث يتكرَّر في ذلك المشهد العراقي، عندما عمدت أميركا إلى استخدام ترسانتها العسكريَّة لاحتلاله وتدمير جيشه وبنيته التحتيَّة، بحجَّة وجود السّلاح النّوويّ الَّذي أظهرت الأيّام عدم وجوده وعدم صدقيَّة كلّ تلك الادّعاءات.

إنَّنا في الوقت الَّذي نؤكّد عدم جواز استخدام السّلاح الكيميائيّ في الحروب، ولا سيَّما الحروب الداخليّة، لما قد يشكّله من خطرٍ على أمن النّاس جميعاً، ولأنّه يخرج الحروب عن تقليديَّتها، نريد ممن سارعوا إلى تحميل النّظام السّوريّ مسؤوليّة استخدام هذا السّلاح، وبدأوا بترتيب الآثار على ذلك، أن يكونوا شفّافين، لا أن يأخذوا دور الجلاد والقاضي، حيث يظهر الشكّ في اتهامهم، بعدم أخذهم بعين الاعتبار وجود فريق آخر قد يكون استخدم هذا السّلاح، وبالمسارعة في حشد جيوشهم وأساطيلهم، بينما لا تزال لجنة التَّحقيق الَّتي شكَّلتها الأمم المتَّحدة تعاين الوضع وتحقّق فيما حصل.

إنَّ من الخطورة ترك الحريَّة لمنطق القوّة بأن يحكم هذا العالم الَّذي تنعدم فيه لغة القيم وتُستبدل بلغة المصالح، فهذا المنطق يجعل كلّ الدول الرافضة لمنطق الإدارات الغربية، عرضة للاتهام، وكلّنا يعرف مدى قدرة وسائل الإعلام على تحوير الحقائق وفبركة الأحداث.

إننا نقدّر رغبة بعض السوريّين في الخروج من معاناتهم، وإحداث إصلاحات يرتجونها في بلدهم، ولطالما أكَّدنا ضرورة حصول هذه الإصلاحات، وجعل الإنسان في سوريا يشعر بإنسانيَّته، لكنَّنا نودّ أن ننبّه كلّ هؤلاء، إلى أنَّ الواقع الآن في سوريا لم يعد قضيَّة إصلاحات، بقدر ما بات صراعاً لمحاور دوليَّة وإقليميَّة على أرض هذا البلد.

إنَّ تغيير الواقع لا يتمّ، كما يتحدَّث البعض، من خلال ضرب مواقع القوّة في سوريا، وتهديد بنيتها التحتيَّة الَّتي بُنِيت بجهد الشَّعب السّوريّ وتعبه، ولا سيَّما أنَّ ما حصل في العراق وأفغانستان، لا يشجّع على إعطاء هؤلاء الحقّ في ضرب سوريا أو القبول به.

وهنا، يحقُّ لنا أن نستغرب الأصوات الّتي انطلقت من بعض الدّول العربيَّة والإسلاميَّة، والّتي تهلِّل للضَّربة المتوقّعة لبلد عربيّ وإسلاميّ، من دون وعي عميق لمخاطر هذا الاستهداف، وهو الّذي يفسح المجال لاستهداف بلدان عربيّة وإسلاميّة أخرى، عندما تجد الدّوائر الاستكباريّة أنَّ في ذلك مصلحة لها.

ونقول للشّعب السوريّ: إنَّ كلّ هذا الحشد باتجاه بلدكم، ينبغي أن يدعوكم إلى الإسراع في الحوار، حرصاً على وحدة سوريا وحريَّتها، لأنّنا نخشى أن تزيد هذه الضَّربة ـ إن حصلت ـ معاناتكم، وتجعلكم رهينة هذه الدّول الكبرى الّتي لا تتحرَّك أبداً كجمعيّة خيريّة، بقدر ما تتحرّك وفق مصالحها، وبالطَّبع ليست حريّة الشّعب السّوري ومصالحه من أولويّاتهم.

كيانٌ فوق المحاسبة؟!

ويبقى وسط كلّ هذا الجوّ أن نطرح السّؤال البديهيّ: لماذا لم تتحرّك كلّ الأساطيل وكلّ هذه القوى في مواجهة العدوّ الصهيونيّ الَّذي استخدم الفوسفور الحارق ضدّ الفلسطينيّين في غزّة، وحتّى عندما استهدف هذا العدوّ مراكز الأمم المتحدة داخل غزّة؟ فبقي العالم الغربيّ بكلّ إداراته صامتاً، الأمر الّذي يؤكّد أنَّه عالم لا يتحرَّك لحساب القيم أو على أساس الرأفة بالشّعوب، بل لحساب مصالحه وأطماعه، وهو عالم لا ينظر إلا بعين واحدة، وهي العين الَّتي تبصر قبل كلّ شيء مصالح الكيان الصهيوني وتفوّقه على الجميع.

ورغم هذا الواقع، لا بدَّ من أن لا تسقطنا التَّهاويل والمخاوف والحرب النفسيَّة، وأن لا نفقد ثقتنا بالله، وأيضاً ثقتنا بأنفسنا وقدراتنا، وأن لا ننسى كلّ التاريخ المجيد الَّذي استطعنا أن نحقّق فيه الانتصارات ونواجه تكتّل الأعداء، وأن نتذكّر دائماً قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173].

لبنان: الرّهان على الوحدة

أمّا لبنان، فقد عاش خلال الأسبوع الفائت فاجعةً كبيرةً مسَّت كلّ اللّبنانيّين، من خلال استهداف مسجدين في مدينة طرابلس العزيزة، لإرباك الواقع الدّاخليّ اللّبنانيّ، عبر تأجيج فتنة مذهبيَّة تستفيد من كلّ توتّرات السّاحة اللّبنانيّة وتناقضاتها.

ومن هنا، كان تقديرنا عالياً لكلّ الأصوات الَّتي انطلقت من علماء الدّين في المدينة وسياسيّيها، في رفض الانجرار إلى الفتنة، ومنع أيّ ردود فعل تؤدّي إلى تحقيق أهداف المعتدين.

وإنّنا إذ نقدّر هذا الصَّوت الوحدويّ والمسؤول، نعيد تأكيد ضرورة العمل لتمتين السَّاحة الدّاخليَّة، من خلال لقاء إسلاميّ ـ إسلاميّ يمهِّد للقاء وطنيّ جامع، لقطع الطَّريق على السَّاعين للفتنة في الواقع الإسلاميّ واللّبنانيّ العام.

وفي الوقت نفسه، نعيد الدَّعوة إلى الإسراع في تشكيل حكومة تمسك بزمام البلد، وتعمل على علاج كلِّ المشاكل العالقة.. وهنا، لا بدَّ من أن نعيد التَّشديد على الواقع السياسيّ كلّه، بعدم إبقاء بلدهم أسير رهانات ما قد يجري هنا وهناك، فالمطلوب من جميع اللّبنانيّين أن يكون رهانهم الوحيد على وحدة هذا الوطن، حيث لا قيام لهذا البلد إلا وفق منطق اللاغالب واللامغلوب.

لغز الاختفاء المستمرّ

وأخيراً، نستعيد في هذه الأيّام الذكرى الخامسة والثّلاثين لتغييب الإمام السيّد موسى الصّدر ورفيقيه، وقد كنّا نأمل أن ينتهي هذا الملفّ في هذه السَّنة، وتُكشف أسراره، ولا سيَّما بعد سقوط النظام اللّيبي، ولكن لا يبدو أنَّ هذا سيحصل في الوقت القريب، ولذلك نعيد التّأكيد على السّلطات اللّيبيَّة أن تبذل جهوداً أكبر، وأن تقوم بمسؤوليّتها كاملةً في هذا المجال للكشف عن مصيرهم.

وفي هذه المناسبة، لا نستطيع إلا أن نستعيد المعاني الكبيرة لهذه الشخصيَّة الإسلاميَّة الّتي تركت بصماتها في الواقع الإسلاميّ بشكلٍ عام، وفي الواقع اللّبنانيّ بشكل خاصّ، فكانت عنواناً من عناوين المقاومة والوحدة الإسلاميَّة والوطنيَّة، والوقوف في وجه الحرمان في الدّاخل.

إنَّنا ندعو الجميع للاستفادة من منهج الإمام الصَّدر الوحدويّ، ومن القواعد الّتي أرساها لحماية الوحدة الداخليَّة، كما ندعو إلى العمل لتعميق هذه المعاني في واقعنا، لتكون عنواناً ينهل منه كلّ اللّبنانيّين، لإخراج الوطن من كلّ معاناته، والواقع العربيّ الإسلاميّ من شرذمته…

 
 

 

Leave A Reply