ظاهرةُ التَّشاؤمِ والنّحوسةِ في شهرِ صفر

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قُلِ اللَّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26]. صدق الله العظيم.

أطلَّ علينا شهر صفر، هذا الشّهر الَّذي هو واحد من الشّهور القمريّة التي أشار الله سبحانه وتعالى إلى أنها وجدت منذ وجد هذا الكون ووجدت السماوات والأرض، وقبل أن يوجد الإنسان {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}[التّوبة: 36].

شهرُ صفر والنّحوسة!

ولكن ما نريد التوقف عنده، هو أنَّ هذا الشهر يصفه الكثيرون بالنحوسة ويتشاءمون عند قدومه، وقد راح قدومه يستدعي الخوف عندهم مما قد يحمل إليهم من مشاكل وهموم وغموم، حتى ترى البعض يتورّعون عن الزّواج فيه، أو يمتنعون عن شراء منزل، أو إجراء عقود ومعاملات، تجنّباً لتعرّضهم لنحوسته.

وفكرة النحوسة لا تختصّ بشعبٍ من الشعوب أو بدولةٍ من الدّول، بل حتى في الدول التي تعتبر نفسها من الدول المتقدّمة، نجد من يتشاءم من رقم معيَّن، فهناك من الدول مَنْ ألغت رقم 13 من حساباتها لارتباط هذا الرقم بالنحوسة، أو التشاؤم من رؤية بعض الحيوانات أو الطّيور، أو من حركة بعض الطيور وما إلى هنالك.

ولكنّ الخطورة كلّ الخطورة، عندما راحت النحوسة تُعطَى بعداً دينيّاً، ونحن ينبغي أن تكون لنا كلّ الحساسيّة من أن ينسب إلى الدّين ما لا أساس ولا سند في مصادره، وهي القرآن الكريم والسنَّة والعقل، ومن كلّ ما يسيء إليه، كما هو الحال فيما ورد عن شهر صفر.

فنحن، مثلاً، نقرأ في بعض كتب الأدعية، عند الحديث عن شهر “صفر” من يقول: “اعلم أنَّ هذا الشّهر معروف بالنّحوسة، ولا شيء أجدى لرَفع النّحوسة من الصّدقة والتوكّل على الله وقراءة الأدعية والاستعاذات المأثورة، فمن أراد أن يصان ممّا ينزل في هذا الشَّهر من البلاء، فليقل كلّ يوم عشر مرّات: يا شَديدَ الْقوى، وَيا شَديدَ الْمِحالِ، يا عَزيزُ يا عَزيزُ يا عَزيزُ، ذَلَّتْ بِعَظَمَتِكَ جَميعُ خَلْقِكَ، فَاكْفِنى شَرَّ خَلْقِكَ”، وهذا يعني الاعتراف عندهم بأنَّ هذا الشَّهر محكوم بالنحوسة، والتوقي منه يكون بهذه الوسائل والتقيّد، وإلا سيقع فيها.

موقفُ القرآنِ والأحاديث

ولكن المتتبّع للآيات القرآنيَّة والأحاديث الصّحيحة السند والمضمون، الواردة عن رسول الله (ص) والأئمّة (ع)، يتأكَّد أن لا دور للأيام ولا الأشهر أو السنوات أو الأرقام والأعداد، ولا لحركة النجوم والكواكب والظواهر الكونية، في سعادة الإنسان أو في شقائه، أو التأثير فيه سلباً أو إيجاباً، فكلّ ما يحصل في هذا الكون يعود الأمر فيه إلى الله عزّ وجلّ، حيث يجري الله الكون وحركة الإنسان ضمن قوانين وسنن محسوبة، وهذا ما ورد في قوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}[آل عمران: 154].

وإذا كانت هناك من مشاكل وأزمات تجري في حياة الإنسان، فهي تعود إلى سوء خياراته أو تصرفاته، كما أشار الله سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى: 30]، وهناك ما يقع بفعل الظروف الطبيعيَّة والقوانين التي يخضع لها الإنسان.

بل نجد في الرّوايات ما ينفي ذلك نفياً مطلقاً، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق (ع) يحذّر قائلاً: “لا تسبّوا الجبال ولا السّاعات ولا الأيّام ولا اللّيالي، فهي ليست مسؤولةً عمّا يحدث، (كما يقول الكثيرون: الله يلعن هذه السَّاعة أو هذا الزّمن).

وهنا نورد حواراً جرى مع الإمام الهادي (ع)، إذ جاء إليه أحد أصحابه يتذمّر ويقول: كفاني الله شرّك من يومٍ ما أشأمك! فقال له الإمام الهادي (ع): “ترمي بذنبك مَن لا ذنب له؟!”، فقلت: مولاي، أستغفر الله! فقال: “ما ذنبُ الأيّام حتى صرتم تتشاءمون بها؟!”. ثمَّ قال (ع): “أما علمت أنَّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال، عاجلاً وآجلاً؟!”.

التصدّي لظاهرةِ التطيّر

وقد عبَّر عن ذلك رسول الله (ص)، لما قبض ولده إبراهيم، وانكسفت الشَّمس، فقال الناس انكسفت الشَّمس لفقد ابن رسول الله (ص)، فصعد رسول الله (ص) إلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: “يا أيُّها النّاس، إنّ الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله، تجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته”.

وقد تصدَّى (ص) لهذه الظّاهرة؛ ظاهرة التطيّر، فاعتبر أنَّ الاعتقاد أنَّ قدوم شهر أو رؤية إنسان أو طير أو حيوان، أو احتساب عدد له تأثير في مجريات حياته، هو شرك بالله تعالى، ودعا إلى عدم الأخذ بذلك، فقد ورد في الحديث عنه (ص): “من ردّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك”. وفي الحديث عنه (ص): “ليس منَّا من تطيَّرَ أو تُطيِّر له”.

نعم، هناك من استدلَّ على وجود النحوسة في الأيَّام في حديث في القرآن عن أيّامٍ نحساتٍ، كما في حديث الله عن العذاب الَّذي تعرَّض له قوم عاد: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}[فصّلت: 16]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}[القمر: 19].

لكنَّ هذا الاستدلال لا يصمد أمام أيِّ نقد منهجي، فالقرآن الكريم لم يتحدَّث عن الأيّام هنا بما هي مساحات زمنيَّة لها تأثير في الأحداث، بحيث تنتج النَّحس أو تنتج السَّعد، بل لكونها كانت ككلِّ الزمن، وعاءً للأحداث، ما يوحي بأنَّ النّحوسة نسبت إليها.

لا مبرِّرَ لظاهرةِ النّحوسة

وإذا كان هناك من يرى أنَّ مبرِّر النحوسة في هذا الشَّهر هو وفاة محمّد رسول الله (ص) فيه، وفيه نستعيد ذكرى أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين (ع) وعدة من الأئمّة (ع)، فوفاة رسول الله (ص) وعدد من أهل البيت (ع) في هذا الشَّهر وذكرى الأربعين، لا تستدعي أن يكون الشّهر نحساً، فالنّحوسة لا تحصل للشَّهر لموت نبيّ أو وليّ، فلو أجرينا هذا المبدأ، بأن نعتبر نحساً كلَّ يوم حصلت فيه وفاة أو استشهاد لنبيّ أو وصيّ أو عالم أو عزيز، لكانت كلّ الأيّام نحسات، لأنّه ما من يوم إلا وشهد موتاً أو استشهاداً لنبيّ أو وليّ أو صدّيق.

ثم نحن لا نعتبر وفاة الأنبياء أو الأولياء أو شهادتهم نحساً، بل هو استجابة لأمر الله وقوانينه، ونحن نرضى بقضائه كما هم رضوا، وهم غادروا الحياة بأمره بعدما أدّوا أدوارهم كاملة، وكما قال الله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر: 42]، ولا نرى شهادة الإمام الحسين (ع) تؤدّي إلى جعل اليوم الذي حصلت فيه نحساً، بل هو يوم بركة ونعمة، لأنَّه بشهادته ومن معه أيقظ الأمَّة وأعزَّها، وهي شهادة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربها.

ثمَّ لو أخذنا بهذا المبدأ، فليس كلُّ شهر صفر أحزاناً، بل هناك أيَّام فرح وسرور حصلت فيه، ففي أيّامه، نجد مناسبات فرح في ولادة الإمام الكاظم (ع)، وزواج النبيّ (ص) من السيِّدة خديجة (ع)، وغير ذلك.

نعم، يورد البعض أنَّ السَّبب لجعل شهر صفر شهراً نحساً، لكون هذا الشهر يأتي بعد ثلاثة أشهر من الأشهر الحرم الَّتي كان القتال يتوقَّف فيها وينعم الناس فيها بالأمان، فكانوا يتشاءمون من قدومه، لأنه سيحمل إليهم القتال بكلِّ تداعياته.

إذاً، من خلال ذلك كلّه، نستطيع القول إنَّه لا أساس دينيّاً بأنَّ الزّمن أو الكواكب أو النجوم أو غيرها تترك أثرها في حياة الإنسان، فالموجودات والكائنات وحركة الأفلاك كلّها تتحرَّك وفق السّنن والقوانين التي أودعها الله في الكون، وفي كلِّ ذلك الخير للإنسان والحياة كلّها.

تعاملُ الإسلامِ معَ المتشائمين

لكنَّ الإسلام كان واقعيّاً في تعامله مع من يتشاءمون من شهر أو يوم أو أيّ ظاهرة من الظّواهر التي تدعو إلى التَّشاؤم، فهو لم يتنكَّر لتشاؤمهم الّذي قد يصيبهم نتيجة عوامل نفسيَّة أو ثقافيَّة، أو لاحتمال أن يكون نحساً، فعمل على معالجة ذلك بالدَّعوة إلى التوكل على الله.

فقد ورد أنَّ رسول الله (ص)، قال: “الطيرة شرك، ولكن الله يذهبه بالتوكّل”، وبالاستعاذة به عزَّ وجلَّ، فقد ورد أنّ رسول الله (ص) إذا رأى أصحابه يكرهون شيئاً ويتطيّرون به، كان يقول: “إذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: “اللّهمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيّئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك“، وكان يدعو إلى عدم المبالاة به، فقد ورد في الحديث: “إذا تطيَّرت فامض”.

ومن دعاء آخر له: “اللَّهمَّ لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك”.

أيّها الأحبَّة: فلندخل إلى شهر صفر كما ندخل إلى كلِّ شهر من الشّهور، وكلّ يوم من الأيّام، دخول المتفائلين بالله الَّذي لا يريد بعباده إلا الخير حتى عندما يتبليهم، ولندع الله عزَّ وجلّ من أعماق قلوبنا: “اللّهمّ واجعله أيمن شهرٍ عهدناه، وأفضل صاحب صحبناه، وخير وقتٍ ظللنا فيه، واجعلنا من أرضى من مرَّ عليه اللَّيل والنَّهار من جملة خلقك، وأشكرهم لما أوليته من نعمك، وأقومهم بما شرعت من شرائعك، وأوقفهم عمَّا حذرت من نهيك، يا أرحم الرّاحمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم بما أوصى به رسول الله (ص) عندما قال: “احذروا المال، فإنه كان فيما مضى رجل قد جمع مالاً وولداً، وأقبل على نفسه وجمع لهم فأوعى، فأتاه ملك الموت، فقرع بابه وهو في زيّ مسكين، فخرج إليه الحجاب، فقال لهم: ادعوا لي سيّدكم، قالوا: أويخرج سيّدنا إلى مثلك، ودفعوه حتى نحّوه عن الباب، ثم عاد إليهم في مثل تلك الهيئة وقال: ادعوا لي سيّدكم وأخبروه أني ملك الموت، فلما سمع سيدهم هذا الكلام، قعد خائفاً وقال لأصحابه: لينوا له في المقال، وقولوا له لعلَّك تطلب غير سيدنا بارك الله فيك، قال لهم: لا، أنا جئت إليه.. ودخل عليه وقال له: قم فأوص ما كنت موصياً، فإني قابض روحك قبل أن أخرج، فصاح أهله وبكوا، فقال لهم: افتحوا الصناديق وأكبوا ما فيها من الذَّهب والفضَّة، ثم أقبل على المال وقال له: لعنك الله يا مال، أنت من أنسيتني ذكر ربي وأغفلتني عن أمر آخرتي، حتى بغتني من أمر الله ما قد بغتني”…

أيُّها الأحبة: لنأخذ بهذه الوصيَّة التي تذكرنا بمسؤوليَّتنا، بأن نكون واعين لأنفسنا، ونؤدي مسؤولياتنا، لا نغفل عنها ولا نفرط بها للحصول على مال أو موقع أو لأجل ولد، حتى نكون جاهزين ليوم حذَّرنا الله منه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء: 88 – 89]…

ومتى فعلنا ذلك، سنكون أكثر وعياً ومسؤوليَّة وقدرة على مواجهة التحديات.

ما بعدَ حادثةِ الكحَّالة

والبداية مما حدث في الكحالة الَّذي رغم انتهاء البعد الأمني فيه، والأمل بأن ينتهي على الصعيد القضائي، فإنَّ ما جرى كشف عن هشاشة الوضع الداخلي، والتوتر الحاصل على الصعيدين السياسي والطائفي.

ونحن على هذا الصعيد، كنا نأمل أن يدعو ما حصل إلى أن تتداعى القوى السياسية، وأن تستنفر جهودها لإجراء حوار بينها يعالج الأسباب التي أدَّت إلى أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لمنع تكرارها، وإن لم يكن بالإمكان ذلك في هذه المرحلة، نظراً إلى التعقيدات الموجودة في الساحة، فعلى الأقلّ قيامها بإعادة النظر بالخطاب السياسي التحريضي الذي أشرنا إلى أنَّه كان له الدور الأساس في ما حصل، وقد يتسبَّب إن استمرَّ بحوادث جديدة وأكثر ضراوة، وبتصعيد في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل.

لكن بدلاً من ذلك، شهدنا تصعيداً على مستوى الخطاب السياسي، بأن وصل إلى حدّ إعلان القطيعة مع طرف لبناني وازن وفاعل، ويحظى بتمثيل شريحة كبيرة من اللبنانيين، وله دوره في حماية البلد، وإغلاق باب الحوار معه من دون التدبّر بنتائج ذلك وعواقبه سياسياً وطائفياً ووطنياً، في الوقت الَّذي يعي الجميع عدم جدوى هذه السياسة في بلد لا يقوم إلا بكلِّ طوائفه ومذاهبه ومواقعه السياسيَّة، بل هي تزيد التوتر، وتسمح لكلِّ من يكنّ العداء لهذا البلد بتحقيق أهدافه، والمسّ بأمنه واستقراره ونهوضه.

ومن هنا، نعيد التأكيد على الجميع، ورأفةً بهذا البلد الذي يتداعى، وحرصاً على استقراره، أن لا بديل إلا الحوار، وهو الطريق الأسلم والوحيد لعلاج الأزمات والخلافات، وهو الذي يساهم في إزالة الهواجس والمخاوف بين اللبنانيين وردم الهوَّة الحاصلة بينهم. وإذا كان هناك من يرى أنَّه جرَّب الحوار سابقاً ولم ينفع، فهذا لا يعني أن لا نعيد التجربة، وبعد دراسة جادة للأسباب الحقيقية لفشل التجربة السابقة، لأنَّ البديل منه هو خراب البلد ومزيد من الانهيار فيه.

تقريرُ التّدقيقِ الجنائيّ

وبالانتقال إلى التقرير الذي صدر عن الجهة المكلَّفة بالتدقيق الجنائي، والذي أشار بوضوح، وبالوثائق هذه المرَّة، وبالأسماء والأرقام للفساد والهدر الَّذي كان يجري داخل المصرف المركزي وفي مؤسَّسات الدولة، ومن تسهيل تهريبٍ للأموال إلى الخارج، ما أدَّى إلى ضياع مليارات الدولارات من الخزينة وأموال المودعين، وأوصل البلد إلى حال الانهيار التي يعانيها.

ونحن في هذا المجال، ندعو القضاء العادل والنزيه إلى أن يقوم بدوره لمحاسبة كلّ الذين ساهموا بهذا الفساد والهدر، والعمل على إعادة الأموال التي أهدرت أو هرِّبت وأخذت بدون وجه حقٍّ من الخزينة، والتي نرى أنّها إن أعيدت، ستساهم في الاستغناء عن القروض الخارجيَّة أو الخضوع لشروطها، والتي ليست في مصلحة البلد، أو هي لغايات وأهداف بعيدة كلّ البعد عن مصالحه.

بشرى التَّنقيب

ونبقى عند الأمل الذي يتطلّع إليه اللبنانيون كسبيل للخلاص من الأزمات التي يعانيها البلد، ويعانونها على الصعيد المعيشي والحياتي، بعدما وصلت الباخرة التي ستتولى التنقيب.. ونحن مع كلّ اللبنانيين، نستبشر بذلك خيراً، ونأمل أن يحمل إلينا التنقيب الَّذي ستظهر نتائجه بعد أشهر أخباراً سارَّة بوجود المخزون الكافي والقابل للاستفادة، لكنَّنا نخشى من أن تضيع هذه الثروة في دهاليز القوى النافذة، وأن تتحوَّل إلى حسابها بدلاً من أن تكون لإنقاذ هذا البلد ولحسابه، كما هُدرت في السَّابق الكثير من مقدّراته وإمكاناته، وهي خشية مشروعة، وخصوصاً حين ترى سعي الكثير من القوى السياسيَّة للإطباق على الصندوق السيادي والمحاصصة فيه، وفي ذلك خيانة للوطن ولأبنائه.

في هذا الوقت، يستمر الفراغ على الصعيد الرئاسيّ، رغم أن تداعياته لن تقف عند الوضع المعيشي والاقتصادي رغم ضراوته، بل وصل إلى عدم قدرة الدَّولة على الوفاء بالتزاماتها، والذي رأينا أولى بوادره في أزمة الكهرباء، وقد تتعدَّاه إلى الفراغ في مركز قيادة الجيش مع كلِّ تبعات هذا الفراغ.

قرارُ المجلس الشّيعي!

وأخيراً، كنا نأمل أن لا يصدر القرار الَّذي نُسب إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي نراه أساء إلى هذه المؤسَّسة التي وجدت لتكون حاملة لكلِّ تنوعات المجتمع المنتمي إلى خطّ أهل البيت (ع)، وقد رأينا مدى الشّرخ الذي أحدثه هذا القرار على صعيد اهتزاز الوحدة الداخليَّة في مرحلة نحن أحوج ما نكون إلى تعزيزها، وتشويه صورة هذه الطائفة، وهي التي حملت ولا تزال تحمل همَّ القضايا الكبيرة، وكانت رائدة في حماية هذا البلد، وداعية إلى مدّ جسور التواصل مع الآخر.

ونحن هنا نقدّر كلَّ المواقف الحكيمة التي سارعت لمعالجة هذا الأمر، واحتواء تداعياته وعدم إذكاء ناره.

إنّنا مع كلّ قرار يعزِّز المؤسّسة الدينيَّة ويصونها ويحفظها، شرط أن يكون نزيهاً وبعيداً عن الحساسيات التي تخرج عن موضوعيَّته، وأن لا يكون سلاحاً يستخدم لإلغاء هذا التنوع الذي تتَّسم به هذه الطائفة على كلّ الصّعد، والذي يمثِّل واحداً من أبرز مميزاتها، وعنواناً بارزاً من عناوينها.