في ذكرى الإسراء والمعراج: الوعد الإلهيّ بتحرير الأقصى

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء/1).

قصّة الإسراء والمعراج

في السَّابع والعشرين من شهر رجب مناسبة عزيزة علينا، هي في عقيدتنا، ومن أساسيّات إيماننا ووجداننا، مناسبة تتَّصل بحركة الرّسالة والدّعوة، إنّها ذكرى الإسراء والمعراج.. هذه الذّكرى حصلت في السنة الثّانية عشرة لبعثة رسول الله(ص)، أي في منتصف فترة الرّسالة الإسلاميّة. وتنقل لنا السيرة تفاصيل هذه الرّحلة المؤنسة للسمع والقلب، ذلك أنّه في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، استيقظ رسول الله(ص) على صوت جبريل يدعوه للنّهوض، أخذه بعضده إلى باب المسجد، وهناك كانت بانتظاره دابّة بيضاء لها جناحان سُمّيت بالبراق ـ وقد يكون السّبب في تسميتها هذه سرعتها الّتي تتجاوز سرعة البرق ـ فدعاه جبريل إلى ركوبها، فركباها حتّى انتهيا بسرعة إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى، وسمي هذا الحدث الإسراء الّذي يعني السّير السّريع ليلاً.. وفي بيت المقدس، زار رسول الله الأماكن الّتي وُجد فيها كثير من الأنبياء، وهناك من ذكر أنّه التقى الأنبياء موسى وعيسى وإبراهيم(ع) وغيرهم، حيث صلى بهم داخل المسجد الأقصى، ومن مكان مرتفع فيه، حيث كانت توجد صخرة كبيرة، عرج النبيّ(ص) إلى السّماوات.

وللإشارة، فإنّ المسلمين في عهد عبد الملك بن مروان، بنوا مسجداً كبيراً فوق هذه القبّة (الصخرة)، وسمي بمسجد قبّة الصّخرة.. وهو غير المسجد الأقصى..

وخلال تلك الرحلة تنقّل الرسول(ص) في أرجاء السّماوات السبع والأرضين السّبع، واطّلع على ما في الكون من أجرام وكواكب، وجال في أرجاء الجنّة فاطّلع على نعيمها، كما رأى ما في النّار من عذاب، ووصل في رحلته إلى أعلى نقطة تصل إليها الملائكة، وهي عند سدرة المنتهى.

وسدرة المنتهى هي شجرة عظيمة، كتبت على أوراقها الكبيرة والضّخمة أعمال العباد، وما يجري في حياتهم.

بعدها عاد رسول الله(ص) إلى بيت المقدس، ومن هناك إلى مكّة، وهو عازم على أن يخبر قريش وكلّ النّاس بهذه المعجزة الإلهيّة، ويبيّن لهم ما حصل معه، بالرّغم من عدم تشجيع أهل بيته له، خوفاً عليه من قريش وبطشها، لكنّه وبكلّ ثقة بالله عزّ وجلّ، ذهب إلى المسجد الحرام حيث كانت رجالات قريش، فقال لهم: "إنَّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس، وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، ومن أجل تأكيد كلامي، فإنّي خلال سيري، شاهدت قافلةً لأبي سفيان تمرّ وقد تقدّمهم جمل أحمر، وبيّن لهم تفاصيل هذه القافلة وما فيها، فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه، اسألوه عن بيت المقدس، فأخبرهم رسول الله(ص) بكلّ ما في هذا المكان.

ردّ قريش

وعندها صاح أبو جهل: لننتظر مجيء قافلة قريش، لنرى صحّة ما تحدّث به، فقال لهم الرّسول(ص): إنّ القافلة الآن هي في "التّنعيم" على أطراف مكّة، وستصل إليكم عند طلوع الشّمس.

وفعلاً، وصلت القافلة عند طلوع الشّمس، وصدق رسول الله في كلّ ما قاله، وكانت هذه الحادثة بمثابة الامتحان الكبير لأهل مكّة، فهناك من شكّ، وهناك من كفر، وهناك من زادتهم هذه المعجزة إيماناً مع إيمانهم.

وكان من شأن هذه الحادثة أن تثبّت المؤمنين، وتربك الكفّار والمنافقين الّذين أصيبوا بهزيمة في كلّ ما سعوا إليه لإبعاد النّاس عن دعوة الرّسول(ص)، لهذا لجأوا إلى أسلوب آخر غير التّكذيب، لأنه بعد أن جاءهم البرهان، وأمام الملأ، أسقط في أيديهم، فلجأوا إلى السّخرية منه، ومما حدث معه، حيث راحوا يسخفّون ويستهزئون ويضحكون، ولكنّ هذا لم يغيّر شيئاً من كون رسول الله قد أسري به إلى المسجد الأقصى، ولا من كونه قد عرج به إلى السّماء… وبالمناسبة، فإن أسلوب السخرية والاستهزاء هو أسلوب المفلسين الضّعفاء الّذين لا يقوون أمام الحجّة والدّليل، أو الّذين لا يريدون أن يروا الدّليل، بل يستبقون حربهم ومعاداتهم بالاستهزاء والسّخرية والتّشبيهات وما إلى ذلك… وأمثال هؤلاء كثر، نراهم أفراداً ونراهم جهات، ونراهم في الإعلام والمحطّات والمواقع…

في هذه الحادثة المعجزة، نزلت الآية الكريمة الّتي أكّدت حادثة الإسراء ليلاً إلى المسجد الأقصى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

وفي الحديث عن المعراج، جاءت الآيات القرآنيّة {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النَّجم /12-18).

الإيمان بوحدة الرّسالات

أيّها الأحبَّة: لم تكن حادثة الإسراء والمعراج حادثةً منفصلة عن حركة الرِّسالة، بل جاءت تتويجاً لمعاناة رسول الله في مكَّة، والّتي بدأت منذ مبعثه، ومنذ أن صدح بدعوته استجابةً لنداء الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ}(المدثّر/2).. ثم استمرَّت هذه المعاناة في تصاعدها إلى العام الّذي عانى فيه الرَّسول(ص) ما عانى من حزن وألم، فعُرف بعام الحزن، حيث توفّيت فيه زوجته خديجة، وعمّه أبو طالب، لتبلغ المعاناة أشدّها في الطّائف… وفي ضوء ذلك، شاء الله أن يسلّي قلب رسوله بهذه الرّحلة الّتي كانت هديّة عظيمة، لم يمنحها الله سبحانه لغيره من الأنبياء، هذه الرّحلة الّتي ترينا بوضوح مدى حبِّ الله لنبيّه وموقعه عنده…

أيّها الأحبَّة: إنَّ إيمان المسلمين بالإسراء والمعراج يعني إيمانهم بوحدة الرّسالات، وإيمانهم بتكاملها، وأنّها من مصدر واحد، وهذا يؤصِّل لنظرتهم وطريقة تعاملهم مع أصحاب الدّيانات من دون استعداء أو اعتداء أو ما إلى هنالك من النّظرات والمواقف الهجينة تجاههم، والله تعالى يقول :{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/ 84).

إنَّ إيمان المسلمين بالإسراء والمعراج، يعني تمسّكهم جميعاً بالمسجد الأقصى وارتباطهم به، وتحمّلهم مسؤوليّته، ليكون أولى أولويّاتهم، وهذه المسؤوليَّة لا تؤجّل أو تجمّد أو تكون مسؤوليّة مع وقف التّنفيذ، بل ينبغي أن تظلّ الأنظار مصوّبة نحوه، لا تحيد عن هدف تحريره، ولن يقبل المسلمون بأيّ ثمن التّخلّي عن ذلك. فأيّ ثمن يوازي محطّ مسرى رسول الله؟ وأيّ ثمنٍ يوازي مكان عروجه الشَّريف إلى السّماء؟ وأيّ ثمن يوازي ملتقى الأنبياء وثاني القبلتين؟

إنَّ إيمان المسلمين بالإسراء والمعراج يعني أنّهم جميعاً معنيّون بالمسجد الأقصى، العرب وغير العرب منهم، القريبون والبعيدون، وأينما كانوا في الشّرق أو الغرب، مسؤوليّة المسجد الأقصى ليست على عاتق من يسكنون فلسطين فقط أو على عاتق الجوار، هناك من يدعو إلى ترك همّ الأقصى لأصحاب الأرض، لا أيّها الأحبّة، إنَّ قضيَّة الأقصى يجب أن تكون همّ كلّ مسلم، فرداً كان أو مجتمعاً أو دولةً، صغرت أو كبرت، فقضيّة الأقصى تستحقّ أن تجتمع الإرادات كلّها من أجل النّهوض بها.

الوعد الإلهيّ بتحرير الأقصى

ومن أجل هذه المسؤوليّة وهذا الامتحان، حرص القرآن الكريم على أن يلفت في سورة الإسراء إلى الدّور الكبير الّذي قام به السّابقون لتحرير المسجد الأقصى من الطّغاة الظّالمين، من بني إسرائيل، وكأنّ الله أراد من هذه الالتفاتة الدّعوة إلى إكمال هذه المسيرة، والتّأكيد أنّ النّصر الّذي تحقّق للسّابقين بتأييد من الله سيتحقّق للاحقين.

هذه ليست أمنيات، ولا رجماً بالغيب، إنّه وعد إلهيّ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}(الإسراء/4-8).

إنّنا في ذكرى الإسراء والمعراج، مدعوّون كما أسري  برسول الله، أن يكون إسراؤنا إلى حيث المسجد الأقصى، لنزيل مع كلّ المجاهدين عن كاهله الاحتلال، ونعيد إليه حرّيّته، ونخفّف عن كاهل محبّيه، ممن اضطهدوا معه، ولأجله يعانون ويعذّبون وهم صامدون. في ذكرى الإسراء والمعراج، لتعرج أرواحنا إلى الله، في صلواتنا، في دعواتنا وأذكارنا، وفي تهجّدنا، لنستمدّ من الله عزيمةً وقوّةً وأملاً بعزّه، بنصره، بتأييده وتسديده…

والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله.. ولبلوغ التّقوى، لا بدّ من الاستهداء بهدي رسول الله(ص)، هذا الرّسول الّذي حظي بتربية الله له وإعداده لحمل المسؤوليّة الكبرى. وقد تجلّى ذلك واضحاً في سيرته، فقد كان رسول الله، وقبل أن يبعث رسولاً، يدعى الصّادق الأمين، فيقال عنه: جاء الصّادق الأمين وذهب الصّادق الأمين، كما كان حليف المظلومين في مكّة. ومن هنا، كانت مشاركته في حلف الفضول؛ هذا الحلف الّذي كان الهدف منه حماية المظلومين الّذين لا يملكون القوّة، ولا سند لهم ولا ظهر، وكثيراً ما كان يعتزّ بمشاركته في هذا الحلف بعد أن بُعث نبيّاً، فكان يقول(ص): "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت له في الإسلام لأجبت".

ونقرأ أيضاً في سيرته أنّه كان حكيم مكّة، يرجع إليه في حلّ الخلافات المستعصية، وهذا ما حصل عندما أعيد بناء الكعبة بعد أن هدمها السّيل، حيث توقّف زعماؤها عن المضيّ في البناء، بعد أن وصل البنيان إلى موضع الحجر الأسود، فأرادت كلّ قبيلة أن تتشرّف وحدها برفع الحجر الأسود إلى موضعه دون بقيّة القبائل، واختلفوا وأوشكوا على القتال، فجاء رسول الله فطلب ثوباً، ثم أخذ الحجر الأسود ووضعه فيه، ثم قال: لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثّوب، ثم رفعوه جميعاً، حتّى إذا بلغوا موضعه وضعه بيده الشّريفة، وبهذا حسم رسول الله الخلاف الّذي كاد يتطوّر إلى صراع دمويّ بين القبائل.

أيّها الأحبّة، بهذه الأخلاق وبهذه الشخصيّة، استطاع رسول الله أن يختصر الزّمن في عمله الرّساليّ، وهو بذلك أراد أن يؤكّد حقيقة لكلّ العاملين ولكلّ الرساليّين والمؤمنين، أنّ الذي يريد أن يتحمّل المسؤوليّة، أيّ مسؤوليّة، لا بدّ من أن يكون صادقاً أميناً حكيماً، حليف الحقّ والمظلومين.

مواجهة العدوّ بوأد الفتن 

إنّ مشكلتنا في كلّ واقعنا هي في الكذّابين والخائنين الّذين يداهنون ظلماً وطغياناً لحساباتهم الخاصّة، ولا يحسنون التصرّف وإدارة الأمور، هؤلاء يتحمّلون مسؤوليّة هزائمنا ونكباتنا في كلّ مجالات الحياة، وهؤلاء هم سبب النّكبة الّتي تعصف بهذه الأمّة، وقد مرّت علينا ذكرى نكسة الخامس من حزيران، هذه النّكسة الّتي كان يمكن لها أن تتحوّل إلى هزيمة منكرة ليبني عليها العدوّ أمجاده وأحلامه في الاستيلاء على مزيد من الأراضي وإبقاء زمام المبادرة بيده، لولا روح المقاومة الّتي استعيدت في العالم العربي والإسلامي، والّتي تجلّت مقاومة في لبنان وفي فلسطين، هذه المقاومة الّتي كسرت عنفوان العدوّ وأسقطت هيبته، واضطرّته إلى أن يتراجع عن بعض احتلاله، ولكنّ هذا لا يعني أن نستكين، فهذا العدوّ لا يزال يعمل في اللّيل والنّهار للثّأر ممّن تسبّب بهزيمته، وإعادة زمام المبادرة إليه، وهذا ما نراه في سعيه لتعزيز جبهته الدّاخليّة، وإبقاء تفوّقه العسكريّ والأمني، والمناورات المستمرّة الّتي تحاكي هجوماً على هذا البلد العربي وذاك الإسلاميّ.

وفي الوقت نفسه، يسعى هذا العدوّ مع حلفائه لتهيئة كلّ مناخات الفتن الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، مستفيداً من الجهل والتخلّف والمنطق التكفيريّ الإلغائيّ الّذي بات مشكلة لواقعنا.

ومن هنا، ومنعاً للعودة إلى النّكسة وإلى تاريخ الهزائم، نحن مدعوّون إلى وأد الفتن في واقعنا، حيث باتت الدّماء تسيل أنهاراً في ساحات الدّاخل، وإلى تعزيز مواقع القوّة الّتي أعزّت هذه الأمّة، بتعزيز المقاومة وحفظها وحفظ مجاهديها، فلا نضطرّها لأن تتطلّع إلى الوراء كي تحمي ظهرها أو وجودها أو خطّ إمدادها، بل أن نحميها كي تتابع مسيرة القوّة وإيجاد توازن استراتيجيّ مع هذا العدوّ.

إنّنا مدعوّون أيضاً إلى أن نبقى حذرين دائماً من هذا العدوّ الغادر الّذي ينتظر أيّ فرصة ضعف لينقضّ على كلّ واقعنا، أن نبقى نتطلّع إلى فلسطين الّتي تستصرخنا، حيث يستمرّ العدوّ في مشروعه التّهويديّ من خلال مشاريعه الاستيطانيّة، وإزالة المعالم التاريخيّة الإسلاميّة والمسيحيّة، واستهدافه المستمرّ للمسجد الأقصى، وعبثه الدّائم بكلّ مقدّرات الشّعب الفلسطيني وحياته.

سوريا: الاستهداف المستمرّ

وفي الوقت نفسه، لا بدَّ من أن تبقى عيوننا على سوريا، حيث تستمرّ الخطّة الاستكباريّة في إضعاف الموقف الرّياديّ لهذا البلد، من خلال إضعاف جيشه وحيويّة شعبه، هذا الشّعب الّذي وقف في كلّ تاريخه مع المقاومة في لبنان ومع جهاد الشّعب الفلسطيني، وذلك بتأجيج الصّراع فيه وإعطائه بعداً مذهبيّاً وطائفيّاً، وإخراجه عن بعده الحقيقيّ الّذي بات لا يخفى على القاصي والدّاني. ومن خلال ذلك، فإنّنا نعيد التّأكيد على كلّ مكوّنات الشّعب السّوريّ، وعي خطورة ما يجري، والعمل سريعاً لمدّ جسور التّواصل فيما بينهم، منعاً لاستمرار نزيف الدّم والدّمار، فلا ينتظر أن يأتيه الحوار من هذا الطّرف أو ذاك، لأنّ هذا الحوار لن يأتي سريعاً منهم، كونهم مرتاحين إلى استمرار نزيف الدّم في الدّاخل، ما دامت مصالحهم ومصالح الكيان الصّهيوني في أمان، وليبق الشّعار الدّائم للجميع في سوريا: "لأسلمنّ ما سلمت أمور السوريّين".

لبنان: الفتنة تحدق بالبلد

أمَّا لبنان، فإنَّ أبناءه يعيشون الخوف والقلق من الفتنة الّتي يسوّق لها البعض نتيجة تداعيات ما يجري في محيطهم، وارتفاع منسوب الخطاب التّوتيريّ، وإقدام البعض على التَّصويب على المؤسَّسة العسكريَّة وتعطيل دورها، ما بات يستدعي عملاً جادّاً من قبل الجميع لدراسة كلّ السّبل الآيلة لمنع تسلّل الفتنة الّتي نخشى أن يدخل على خطّها من لا يريدون لهذا البلد الأمن والاستقرار، والّتي إن حصلت، فسيصاب بشظاياها الجميع.

ومن هنا، فإنّنا نجدّد الدّعوة لضرورة لقاء إسلامي ـ إسلامي، كمقدّمة للقاء وطنيّ جامع، لدراسة كلّ السبل الآيلة إلى وأد أيّة فتنة قد يخطّط لها البعض، في الوقت الّذي نعيد التّأكيد بضرورة الخروج من الخطاب الانفعاليّ المثير للحساسيّات والعصبيّات، وحماية الجيش وإبعاده عن الصّراعات الداخليّة، ليبقى صمّام أمان هذا البلد.

إنّنا ندقّ ناقوس الخطر، لأنّه إذا لم تستطع القوى السياسيّة أن تقوم بالدّور المطلوب منها وطنيّاً وأخلاقيّاً، ولم تسع إلى إعادة تنشيط المؤسّسات السياسيّة والأمنيّة والقانونيّة وإعادة الاعتبار إليها، وبقي كلّ طرف يغرّد في موقعه ولحساباته الخاصّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة، فإنّ الفوضى ستكون هي العنوان الّذي قد يأكل الأخضر واليابس عندنا، والكثيرون جاهزون لذلك.

وعلينا في الوقت نفسه أن لا ننسى أو نتناسى خطر العدوّ الصهيونيّ الّذي لا يتوانى عن ممارسة المزيد من الاعتداءات على الأجواء اللّبنانيّة وعبر الحدود الفلسطينيّة المحتلّة، حيث الجميع مدعوّون لمعالجة هذا الخطر وكلّ تداعياته.

أيّها المعنيّون جميعاً، أيّها المسؤولون، أيّها اللّبنانيّون: إنّ الانقسامات هي الّتي تفسح المجال للعدوّ وللآخرين للتسلّل إلى واقعنا، والعبث بأمننا وسلامنا الدّاخليّ، فتعالوا لردم الهوّة عبر الحوار الموضوعيّ البنّاء، ليسلم البلد ويسلم أمنه ومستقبله.

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :28رجب 1434هـ  الموافق :7حزيران 2013 م

 

 

Leave A Reply