قضايانا بعين الله ومقاييسه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

**********

كيف نتّبع هدى الله ، كيف نسير بهديه و في سبيله ، سؤال تبدو الاجابة عنه سهلة فالجواب هو في الواجبات ونزيد عليها مستحبات نتقرب بها الى الله ، هذا جيد ،ولكن السير في خط هدى الله يحتاج إلى الثبات وهذا بدوره يحتاج إلى مناعة وحصانة وخطوط دفاعية، وهذا ما يؤمنه لك الفهم والتعمق والتدبر، من أجل ان  تفهم حركتك في الحياة كلها، هذه الحركة في بعض تفاصيلها قد تعطل لك مفاعيل عباداتك واعمالك ومن دون ان تشعر: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}

لهذا نحن نحتاج، أيها الأحبة، الى فهم عميق لتعرف الله، ونفهم علاقتنا به ونفهم ما لديه لنا والامر كما ذكرنا يفوق طقوس العبادة والواجبات. وتعرفنا إلى الله يتطلب ان نفهم المقاييس التي يقيس بها اعمالنا وعلى أساسها يحاسبنا. ومعرفة المقاييس ضرورية جداً، لانها تشكل الاطار المفاهيمي لحركة سلوكنا وأفعالنا ومواقفنا. فالانسان عندما ينطلق في حياته، يحتاج الى معايير يرجع اليها ويحكم من خلالها، حتى لا يقع فريسة الآخرين ليحكموا على ما لديه او ليحددوا له ماذا يفعل: معايير الناس، المجتمع، الاهل، السائد والمتعارف عليه، وهي مقاييس مشوَّشة ومضطربة وغير متوازنة وأبعد ما تكون عن ميزان العدل الإنساني، هي معايير  غالبا لا تتوافق مع معايير ومقاييس الله.. خذوا الحرية مثلاً كنموذج:

كيف يفهم أكثر الناس موضوع الحرية في رأي الكثيرين؟  الحرية هي ان يتفلت الانسان من القيود، يعمل ما يريد، ويقرر ما يشاء من دون أي ضابط او قيد، وهي تعطيه الحق في عدم اطاعة أحد، إلى درجة إطلاق العنان لشهواته وأهوائه بما يحوّله إلى حيوان مفترس. هكذا هي الحرية في نظر كثير من الناس، وكثير من المدارس الاجتماعية.

أما في مقاييس الله، فإن الحرية هي الحرية الداخلية يعني ان تكون حراً أمام نفسك، أن نكون أحرارا يعني ان نملك إرادتنا امام انفسنا، فلا نخضع للشهوات والأطماع والعصبيات ولا للانفعالات او الغرائز  ولا لكل ما يسيء الى حياتنا وحياة الآخرين من اجل تحقيق الرغبات.. فالحرية ليست في أن نحقق كل الرغبات بل الحرية ان لا تملكنا الرغبات وتتحكم فينا وتسيّرنا.

  والحرية بمقياس الله أيضاً تتحقق عندما لا يأسرنا تخويف الآخرين وتهويلاتهم، أو تخضعنا ضغوطهم وتهديداتهم. ولذلك، فقد يكون الإنسان في حسابات الله حراً، حتى ولو أودعه الاخرون في السجون، أو قيدوه بقيودهم، أو كموا لسانه عن التعبير. وقد قص علينا القرآن نموذج النبي يوسف(ع)، الذي  في الشكل الظاهري عانى العبودية، فقد كان مملوكاً لعزيز مصر وامرأته، ولكن ذلك لم يمنعه أن يكون حراً، فلم تنسحق إرادته أمام من ملكته وربته، وأصرّ على إيمانه وقناعاته ورضا الله عنه. {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}، وبقي حراً وهو في السجن، عندما رفض عرض ملك مصر عليه الخروج من السجن ذليلاً، بل أراد أن يخرج خروجاً عزيزاً عندما تثبت براءته.

وبالمقابل هناك الكثير من الناس عبيد، وإن بلغوا أعلى المناصب، أو امتلكوا الأموال، أو خضع لهم الناس، والسبب أنهم باتوا عبيداً للمنصب والجاه والأموال، قارون، فرعون، النمرود… كل هؤلاء الطغات نصّبوا أنفسهم أرباباً للناس، لكنّ كل واحد منهم كان عبداً لنفسه، لشهواته، لهذا أكدت الأحاديث معنى الحرية: «من ترك الشهوات كان حراً»، «الحر حر وإن مسه الضر…».

******

والحديث عن الحرية يدخلنا في مفهوم الربح والخسارة، إذ  الخاسر في المفهوم السائد ومفهوم الناس هو من يفقد مالاً أو موقعاً أو فرصة من فرص الحياة ، أما الخسارة الحقيقية في مقياس الله فهي تقع عندما تخسر نفسك وتضيعها ويضلّ سعيك في متاهات الحياة، وبعد ذلك في الآخرة يوم الحساب: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.

******

 مقياس آخر يبيّنه الله لنا، وهو أحوج ما نكون اليه اليوم، وهو كيف ننظر إلى الكثرة والقلّة، حيث نجد ان فكرة من يملك أكثر عادة تجد لها مقبولية أكثر في الحياة: الاكثر مالا، والأكثر ولداً، هي مجال للتباهي والشعور بالفوقية واحتقار الاقل {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} اليس هذه الثقافة موجودة بيننا، وفي وجداننا؟ وفي السياسة إذا كانت الأكثرية على رأي أو موقف، فموقفها هو الحق وهي المنتصرة، فيما الأقلية على باطل أو منهزمة. أما المنطق الإلهي أيها الاحبة، فهو غير ذلك، لا بل هو العكس. فصورة الكثرة مذمومة إذ يقول تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، {.. أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. {أَكثَرُهُم لاَ يُؤمِنُونَ} {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} {وَلَـكِنَّ أَكثَرَهُم لاَ يَعلَمُونَ}. والله يحذرنا من أن ننخدع بالكثرة {لْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً}.  ويشد أمير المؤمنين على يد القلة: «لا تستوحشوا في طريق الحق لقلّة سالكيه». ومن الافكار السائدة في واقعنا ونسمعها دوماً: ايعقل كل الناس على خطأ ونحن على صح: نعم هذا معقول، لان القيمة عند الله هي للحق، وليس للعدد ابداً،  وها هو ابليس عندما كان يعلن خططه: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}

******

وبناء على معيار الله للكثرة والقلة ايضا  نفهم معيار الضعف والقوة ومعيار النصر والهزيمة، قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً}، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}. ومنها نفهم  في واقعنا وواقع الجهاديين وواقع المستضعفين اينما كانوا ، كيف ان العين تقاوم المخرز.

  وأبرز تجليات حسابات الله في مفهوم النصر والهزيمة استشهاد الامام الحسين (ع):« والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد». نعم، استشهد الامام الحسين وبالعنوان العسكري خسر الحرب، لكنه انتصر في معركة الرسالة والعدل والثبات على الحق ونصرة خط الله، لذلك كان ايمان زينب بالنصر راسخاً إذا قالت للطاغية: « فوالله لن تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا»

 

******

معيار آخر نحتاج ان نستحضره الآن، في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، وهو معيار اللحظة، حيث إن أكثر الناس لا يقيمون الاعتبار إلا للآني ،للحالي، ولكن الله يرى الامور من زاوية المستقبل و من زاوية الخواتيم والعواقب: الله  يريدك ان لا تعيش الساعة واللحظة وتحبط او تسعد،{.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}: «الله يمهل ولا يهمل» «الذي يضحك هو الذي يضحك اخيرا» ،«ولا يصح الا الصحيح»  ،«و الحق  سيحق ولو بعد حين»، هذه مقولات يريدنا الله ان نثق بها، وعندها لن نحبط اذا ما وجدنا البعض يتّبعون الفساد او الاساليب الملتوية، من أجل موقع أو صفقة لأن هذا لن يدوم، فالله بنى الحياة على الاستقامة وليس العكس وهذا قانون الهي في خلقه وهذا وعد :{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: كونوا مستقيمين، اقيموا الحق والعدل ارفعوا الظلم  وسافي بعهدي اليكم بالنصر {إِن تَنصُرُ‌وا اللَّـهَ يَنصُرْ‌كُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُور اللَّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَاَللَّه مُتِمّ نُوره وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

عندما خرج رسول الله سراً وليلاً من مكة مهاجراً إلى المدينة، كان من معه خائفا فالمشهد يبدو في الليل مقلقاً: اللجوء للغار والاختباء  ونزلت آية {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ولكن الله  اراد ان يخرجه من مشهد الفرزع والحاضر المخيف الى المستقبل المشرق: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} والرسول الذي غادر مكة فردا مع صاحبه، عاد اليها  بعد ثماني سنوات  فاتحا مع الالوف ممن دخلوا في دين الله افواجا..

*****

لننظر أيّها الاحبة الى قضايانا ومفاهيمنا الأساسية بعين الله ومقاييسه، الرهان لن يكون خاسراً، فالتجارة مع الله لا تبور ولا تكسد، هذا وعد الله وهذا أمر يريح الانسان ويكون  سبب خلاصه في الدنيا  قبل الآخرة .

الحرية والعبودية، القلة والكثرة، الضعف والقوة، الربح والخسارة، وغيرها من المفاهيم التي ينبغي ان نعيها جيدا ونحن نسير في خط الصراط المستقيم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }. والحمدلله رب العالمين

 

الخطبة الثّانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ومن التقوى، الاعتبار مما حدث في أيام رسول الله(ص)، حيث يُروى أنَّ شأس بن قيس، وهو حبر من أحبار اليهود، مرَّ يوماً على جماعة من الأوس والخزرج، وهم يتبادلون الحديث ويتسامرون، فغاظه ما رأى بينهم من محبة وألفة ووئام، وقال لنفسه: "والله، ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار!". ثم قال لشاب من شباب اليهود: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث (وهو اسم حرب وقعت بين الأوس والخزرج في الجاهلية)، وأنشدهم بما كانوا يتقاولون من الأشعار، فذهب الشاب اليهودي، وجلس بينهم، ونفَّذ ما أمِر به، فأثار النزاع بين القوم، حتى وصل بهم الأمر إلى أن يتنادوا: السلاح السلاح، القتال القتال…

ولما وصل الخبر إلى رسول الله(ص)، خرج إليهم مسرعاً ومعه جماعة من المهاجرين، ووقف بينهم قائلاً: "يا معشر المسلمين، الله الله.. اتقوا الله، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟!".

كانت كلمات رسول الله كافية كي يعود هؤلاء إلى إيمانهم، ويندموا على ما صدر منهم، ويدركوا أن ما حصل معهم هو نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من مكائد اليهود، فتعانقوا وهم يبكون. وعندها، نزلت الآيتان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

أيها الأحبة، هذا المشهد يتكرَّر دائماً في واقعنا، عندما يدخل المغرضون على خط الخلافات التاريخية أو العقائدية أو الفقهية أو السياسية، ليثيروا الحساسيات والعصبيات والفتن الطائفية والمذهبية والسياسية بين الناس. ومع الأسف، يجدون عندنا أرضاً خصبة لذلك، فكل ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي من توترات، يشير إلى مدى قدرة هؤلاء على استباحة واقعنا.

أيها الأحبة، قد لا يكون رسول الله بيننا حتى يسارع إلى وأد الفتنة، كما حصل بين أتباعه ومحبيه، ولكن كلمات رسول الله ووصاياه ومواقفه، لاتزال حاضرة، وعلينا أن لا ننساها وسط ضجيج العصبيات فينا، فبذلك يسلم واقعنا، ونصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وما أكثرها!

والبداية من لبنان؛ هذا البلد الذي لايزال إنسانه يعيش القلق والخوف جراء استمرار مسلسل التفجيرات الذي أصاب أكثر من منطقة لبنانية، مع إصرار الجماعات التي قامت بذلك على الاستمرار بهذا النهج، فضلاً عن التهديدات التي أطلقها بعض القادة العسكريين لكيان العدو، باستهداف المدنيين، بحجّة وجود المقاومة بين صفوفهم واحتضانهم لها، إضافةً إلى الخشية من تداعيات ما يجري في سوريا على الداخل اللبناني، بعد عدم وصول مؤتمر جنيف إلى حل منشود للأزمة.

وكم كنا نتمنّى أمام هذا الواقع اللبناني على من هم في مواقع المسؤولية، أن يرتقوا إلى مستوى آلام الناس وجراحاتهم، وخوفهم على مستقبلهم ومستقبل أولادهم وبلدهم، وأن يبادروا إلى فعل كل ما من شأنه أن يساهم في إخراجهم من هذا النفق المظلم، وأن يستكملوا الجهود لتشكيل حكومة وطنية جامعة، ربما لا تستطيع أن تجترح المعجزات، ولكنها قد تساهم في تأمين الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني، وتفسح المجال لمعالجة المشكلات الاقتصادية، ومواجهة الاستحقاقات القادمة، وتنقذ البلد من حالة المراوحة في التأليف، وتمنع العودة إلى صيغ تخشى مضاعفاتها، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى صيغ توافقية.

ومن هنا، ورأفة باللبنانيين، وحرصاً عليهم وعلى مستقبل البلد، ندعو كل المعنيين بتأليف الحكومة، إلى الاستفادة من أجواء التفاؤل ورغبة أغلب اللبنانيين بوجود حكومة جامعة، والمسارعة إلى تذليل العقبات، وتشكيل هذه الحكومة، فالبلد لا يعيش في مرحلة طبيعية حتى يأخذ كلّ طرف وقته، ويملي شروطه، والحاجة ماسة إلى تقديم تنازلات لحساب الوطن والناس، الذين ائتمن المسؤولون على القيام بمسؤوليتهم تجاههم.

وفي هذه المرحلة، يؤسفنا أن نستمع إلى بعض التصريحات التي تتحدث عن ضمانة هذه الطائفة أو تلك، في هذه الوزارة أو غيرها، أو هذا الموقع السياسي أو ذاك، فضمانة الجميع هي الوحدة الوطنية، والوقوف صفاً أمام كل التحديات التي تبقي البلد في دائرة الاهتزاز واللاستقرار والعبث الأمني، ريثما تحل ملفات المنطقة الصعبة والطويلة الأجل.

إننا على ثقة بوعي المسؤولين، ولا سيما الحريصين على هذا البلد، بأن يفوّتوا الفرصة على كل المصطادين بالماء العكر، وألا يسمحوا لهم بإدخال لبنان في فتنة لن يربح فيها أحد، والكل فيها خاسرون.

أما سوريا، فقد كنا نأمل من مؤتمر جنيف أن يكون الباب الذي يصل من خلاله السوريون إلى حل يخرج هذا البلد من معاناته على كل المستويات، ولكن يبدو أن الجهات الإقليمية والدولية ليست مستعجلة للحلول، وخصوصاً بعد ما شهدناه أثناء المفاوضات، من عودة مدِّ الساحة بالسلاح، ومن حجم التدخلات التي أثَّرت سلباً في مجرى المفاوضات.

إننا نخشى أن تبقى سوريا رهينة الصراعات الدولية والإقليمية، وألا يتم الحل إلا في سياق حلول لملفات أخرى في المنطقة، في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها.

ومن هنا، نجدد الدعوة للسوريين جميعاً، إلى التمرد على كل ما يخطط لسوريا، ومراجعة حساباتهم، عبر إعادة قراءة هذه التجربة الدامية، للتحرر من كل الارتباطات الخارجية، والمباشرة بحلٍّ سوري مستقل، يكون القرار فيه للسوريين وحدهم. ولتكن البداية بمعالجة الملفات الإنسانية في المناطق المحاصرة، والتي ينبغي أن تعالج بمنأى عن أي مفاوضات، ما دام الجميع في سوريا يعلنون أنهم يعملون لأجل إنسان هذا البلد،كما نأمل أن تستكمل الخطوة الإنسانية التي حصلت في اليرموك، ليتم تعميمها على المناطق الأخرى.

أما البحرين، فإننا في الوقت الذي كنا ننتظر من السلطات هناك أن تبادر إلى قيادة حوار جدي يساهم في إخراج هذا البلد من أزمته، وقد استبشرنا بهذا الأمر بعد اللقاءات التي جرت أخيراً بين السلطة والمعارضة، فوجئنا بالخطوة التصعيدية التي قضت بحل مؤسسة دينية كانت تشكّل في كل مراحلها ضمانةً لاستقرار البحرين، والتي تتمثَّل بالمجلس الإسلامي العلمائي، فعلى الرغم من وقوف هذا المجلس إلى جانب المطالب المحقة للشعب، فإنه ظلَّ يعمل للحفاظ على سلمية الحراك، ووحدة المسلمين، واستقرار البحرين ووحدتها.

إننا، وانطلاقاً من حرصنا على البحرين، نأمل من الحكومة البحرينية إعادة النظر في هذا القرار، والمسارعة إلى إجراء حوار جدي يعيد للبحرين دورها الريادي، في الوقت الذي نشدد على الشعب الانتباه والوعي، حتى لا يستدرج إلى العنف الذي لن يستفيد منه أحد، ولا سيما في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها العالم العربي والإسلامي.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ : 29ربيع الأول 1435هـ الموافق : 31  كانون الثاني 2014 هــ
 

 

 

Leave A Reply