مسؤوليَّة التَّعاون والتَّضامن لحماية مجتمعاتنا

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
مهما بلغت قدرات الإنسان في هذه الحياة وكثرت إمكاناته، فهو يحتاج إلى الآخرين في تدبير شؤونه وتسيير أموره. نعم، قد تتفاوت الحاجات من إنسان إلى آخر، فالحياة لن تتكامل إلا بأن يبذل كلّ من فيها ما عنده للآخرين، وهي لن تعرف نموّاً ولا استقراراً إذا قرّر كلّ من فيها أن يعزل نفسه عن الآخرين.
وقد عمل الإسلام على تعزيز أواصر التعاون داخل المجتمع، فهو حمّل كلّ فرد يملك طاقة أو علماً أو خبرة أو مالاً أو رأياً أو قوّة، مهما كان حجم ما عنده، مسؤوليّة أن يجود به على الآخرين ولا يبخل به عليهم.
فطاقات الإنسان وإمكاناته وقدراته التي أودعت عنده ليست له وحده، بل للآخرين فيها نصيب، فلا يجوز له أن يحتكرها لنفسه وأن يكون أنانيّاً بخيلاً فيها.. ومن هنا، كانت دعوة الله للنّاس {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، فعليكم أن تتعاونوا في موارد البرّ للوصول إلى التقوى.
فالتعاون في حسابات الله سبحانه ليس خياراً، بل هو مسؤوليّة، هو واجب، فالله لم ينعم على عبد من نعمة، إلّا وقد ألزمه فيها الحجّة، وسيسأل الإنسان عمّا إذا كان أفاد من يحتاجون إليها. وإلى هذا، أشار الله سبحانه وتعالى عندما قال: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
التَّعاون في الأحاديث
وقد بيَّنت الأحاديث الأثر الكبير الذي يحصل عليه الإنسان، سواء في حياته أو عند الله، إذا تحسّس مسؤوليّته عن الناس، فقد ورد في الحديث: “الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله، من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً”، و”خيرُ النّاس أنفعهم للنّاس”.
وورد أيضاً: “أحبّ الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ، سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً”.
وقد حثّت الأحاديث الإنسان المؤمن على أن لا ينتظر من الآخرين أن يطلبوا حاجاتهم، وعلى أن يتحرّك معهم لتلبيتها. فعن رسول الله (ص): “مَنْ مَشَى مع أخيهِ المسلمِ في حاجَتِه حتى يُثْبِتَها لهُ، أثْبتَ اللهُ تعالَى قدَمِه يومَ تَزِلُّ الأقْدامُ”.
وعنه (ص): “الماشي في حاجة أخيه، كالسّاعي بين الصفا والمروة”، “ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ، أحبّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا”، يعنى مسجد المدينة.
وفي حديث آخر: “إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدّمه أمامه، كلّما رأى المؤمن هولاً مِن أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تفزع، ولا تحزن، وأبشر بالسّرور والكرامة من الله عزَّ وجلَّ، حتّى يقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنّة والمثال أمامه. فيقول له المؤمن: يرحمك الله، نِعْم الخارج خرجت معي من قبري، مازلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله حتّى رأيت ذلك. ويسأله مَن أنت؟ فيقول: أنا السّرور الذي كنت أدخلتَه إلى أخيك المؤمن في الدّنيا، عندما كشفت عنه كربته، وأزلت غمّه، وقضيت له حاجته، خلقني الله عزَّ وجلَّ منه لأبشّرك”.
هذا على مستوى العلاقة بالله والآخرة. أمّا في الدنيا، فالله وعد أن يكون في عون عبده إن هو ساعد الإنسان الآخر: “أيّما مؤمن نفّس عن مؤمن كربةً وهو معسر، يسَّر الله له حوائجه في الدّنيا والآخرة”، “الله في عون المؤمن ما كان العبد في عون أخيه المؤمن”.
أمّا من يعيش الأنانيّة، يفكّر في نفسه وعائلته، ولا يسأل عن حاجات النّاس الآخرين ولا يسعى إلى سدّها، فهو في نظر القرآن الكريم مكذّبٌ بالدّين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
وفي الحديث: “أيّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة وهو يقدر على قضائها فمنعه إيّاها، عيّره الله يوم القيامة تعييراً شديداً، وقال له: أتاك أخوك في حاجة قد جعلت قضاءها في يدك، فمنعته إيّاها زهداً منك في ثوابها. وعزّتي، لا أنظر إليك اليوم في حاجة، معذَّباً كنت أو مغفوراً لك”.
ولا يقف الأمر عند هذه الحدود، لأنّ هذه اللامبالاة تجاه الناس، سوف تنعكس سلباً على الحياة، فالله لن يبارك بالطّاقات والنعم التي يمتلكها الإنسان ولا يقوم بمسؤوليّته في خدمة الناس الذين يحتاجون إلى مساعدته، فقد ورد: “إنَّ لله عباداً اختصّهم بالنّعم، يقرّها فيهم ما بذلوها للنّاس، فإذا منعوها، حوّلها منهم إلى غيرهم”.
وورد أيضاً: “من كثرت نعم الله عليه، كثرت حوائج النّاس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب، عرَّضها للدّوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب، عرَّضها للزّوال والفناء”.
بالتّضامن نحمي مجتمعاتنا
أيّها الأحبّة: إننا أحوج ما نكون في هذه الظّروف الصّعبة التي يعانيها مجتمعنا، إلى تعزيز روح التّكافل والتّعاون، وإلى الأيدي الممدودة إلى بعضها البعض، كلّ في حيّه أو قريته، أو المدينة التي يسكنها، أو المسجد الذي يذهب إليه، فبذلك وحده نستطيع التّخفيف من وقع هذه الأزمة الخانقة، ويمكن تجاوزها بأقلّ التّبعات.
وبذلك نعبّر عن إنسانيّتنا، وعن إيماننا، ونؤدّي مسؤوليّتنا، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان إنساناً، حتى تكون إنسانيّته في إنسانيّة الآخرين، يتفاعل مع آلامهم وأحزانهم وحاجاتهم، ولا يمكن أن يكون مؤمناً، حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه، ليكون المجتمع على الصّورة التي أشار إليها (ص): “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى”، “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضهم بعضاً”.
إنّ علينا استعادة الصّورة الإيجابيّة التي قدّمها المسلمون بعد الهجرة إلى المدينة، وهم لا يحملون معهم شيئاً مما يحتاجون إليه، يومها استقبلهم أهل المدينة، وتقاسموا فيما بينهم الطّعام والمال والبيوت والعمل، فبنوا أنصع صورة للمجتمع الإسلاميّ الّذي أراده رسول الله (ص)، والذي استطاع (ص) أن يواجه به التحدّيات التي فرضت عليه من قريش ومن اليهود ومن غيرهم.
هذه الصورة التي عبَّر عنها القرآن الكريم بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.


بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية


عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به أمير المؤمنين (ع) عندما قال: “اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّكُمْ مَسْؤولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ”.
فوصيّته لنا ولكلّ محبّيه وشيعته، أن يقوموا بمسؤوليّتهم في حفظ البلاد والعباد وعدم التفريط بهما، فالله سبحانه كما سيسألهم، عندما يقفون بين يديه، عن أدائهم الصلاة والحجّ والزّكاة والخمس، سيسألهم عن عباده كيف قاموا بمسؤوليّاتهم تجاههم؛ هل كانوا بوجودهم أعزّاء كرماء أحراراً، أم تركوهم عرضةً للفاسدين والظالمين والطغاة؟ وسيسألون عن الأوطان بكلّ ما فيها؛ ما الدور الذي قاموا به، هل حفظوها من كلّ ما يسيء إليها، أم تركوها عرضة للعابثين بها والمحتلّين والغزاة؟!.
وعلى ممارسة هذه المسؤوليّة، يتحدَّد موقع الإنسان عند الله، وتصان الأوطان ويحفظ العباد، وسيكون معها الإنسان أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.


لبنان: النَّزف المستمرّ
والبداية من لبنان، الذي عادت فيه أعداد المصابين بفيروس كورونا إلى الارتفاع ولو بشكل نسبيّ.. ولذلك، فإنّنا ندعو مجدَّداً الوافدين والمقيمين، إلى التقيّد التامّ بالإجراءات المطلوبة، واعتبار ذلك، وكما أكّدنا أكثر من مرّة، واجباً شرعياً كبقيّة الواجبات الدينيّة، ووطنياً وإنسانياً وأخلاقياً.
وفي الوقت نفسه، ندعو الدّولة إلى عدم التهاون بالعقوبات الرّادعة لضمان تقيد المواطنين بالإجراءات.
وعلى صعيد الوضع المعيشيّ، تستمرّ معاناة اللّبنانيّين، وقد بات واضحاً أنَّ السَّبب الأساس لها هو استمرار ارتفاع سعر الدّولار، بعد أن لم تنفع في لجمه الوعود التي نثرها أركان الدَّولة، ولا كلّ الإجراءات التي اتخذت، ليبقى الدّولار أسير السّوق السّوداء وما يجري فيها.
ومن هنا، فإننا نعيد دعوة الدولة اللّبنانية إلى تحمّل المسؤوليّة التي أخذتها على عاتقها، لإيقاف هذا النّزف المستمرّ على هذا الصّعيد، واستنفار كلّ أجهزتها، والإسراع في اتخاذ القرارات التي تساهم في التَّخفيف من حدّة الأزمة المعيشيّة الضّاغطة، والتي يمكن أن تهدِّد بانفجار شعبيّ أو فوضى كبيرة، ولا سيَّما بعد أن باتت لقمة عيش المواطنين مهدَّدة في ظلّ عجزهم عن تأمين احتياجاتهم الضّروريّة والأساسيّة، الأمر الذي سيؤثّر في أمن الوطن واستقراره.
ونحن في هذا المجال، نجدّد تأييدنا لكلّ دعوة لإعلان حالة طوارئ ماليّة لمواجهة هذا الانهيار ومعالجة أسبابه، بعدما أصبح من الواضح أنّ له أسباباً داخليّة وأخرى خارجيّة.
وإذا كانت الحكومة قد أخذت خيار صندوق النّقد الدوليّ لعلاج أزمة السيولة النقديّة، فإنّ عليها أن تكون جادّة في هذا الخيار، بالإسراع في الإصلاحات لاستعادة منطق الدَّولة، استجابةً للشّروط الدوليّة للمساعدات، وإدارة المفاوضات بمنطق قويّ وموحّد على صعيد الأرقام، أو على صعيد الوحدة الداخليّة المطلوبة… وإن كنّا لا نزال على موقفنا، أن هذا الخيار لن يكون حلاً في ظلّ واقع الدّولة المترهّل أو الشّروط المطروحة، وبعدما بات واضحاً أنّ حلّ الأزمة النقديّة أصبح مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالشّروط السياسيّة، وما يراد من هذا البلد في الدّاخل وفي العلاقة مع الخارج.


لحوارٍ وطنيّ جامع
وعلى صعيد الحوار الذي حصل، والّذي كنا نأمل مع كلّ اللّبنانيّين، أن ينعقد مؤتمر الحوار الوطنيّ بكلّ أطرافه، لتبريد الأزمات إن لم يكن لحلّها، لكن ما حدث من مقاطعة أظهر مدى الانقسام الحاصل في هذا البلد، والّذي نخشى إن استمرّ، أن يترك تداعياته عليه، في وقت هو أحوج ما يكون إلى توحيد الجهود والطّاقات، لإخراج البلد من النّفق المظلم الّذي يعانيه على كلّ المستويات.
ومن هنا، فإنَّنا نشدِّد على القوى السياسيَّة، أن ترأف بهذا البلد وبإنسانه، وأن تخرج في مواقفها من كلّ الحسابات الخاصّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة لحسابات الوطن، لضمان العودة إلى حوار جادّ يساهم في تأمين موقف وطنيّ موحّد من كلّ القضايا المطروحة، سواء منها الأزمة الاقتصادية والمعيشية، أو التحدّيات الخارجية، أو الخوف من الفتنة، أو تداعيات قانون قيصر والّتي تهمّ كلّ المواطنين.. فما يجري في البلد من أزمات، لا يصيب فريقاً سياسياً واحداً أو طائفة أو مذهباً، بل كلّ الأفرقاء السياسيّين، وكلّ الطوائف والمذاهب.. ولا يمكن الخروج منها إلا بتعاون الجميع.


نصيحة ودعوة
وأخيراً، فإنّنا نجدّد الدّعوة لكلّ من ينزلون إلى الشّارع، أن يحذروا من كلّ الذين يدخلون على خطّهم لتحقيق أجنداتهم الداخليّة، والتي أساءت سابقاً وتسيء إلى صورتهم، وندعو في الوقت نفسه القوى الأمنيّة إلى أن تقوم بواجباتها لحماية حريّة التّعبير عن المطالب المحقّة، مع الحرص على عدم السماح للعابثين بالأمن من تحقيق مآربهم المشبوهة.
ونؤكّد في الوقت نفسه على وسائل الإعلام، والتي نريد لها أن تبقى منابر حرّة لكلّ الآراء والتعبيرات السياسيّة على تنوّعاتها، أن تمارس دورها الوطني المنشود، وأن تبعد عن منابرها كلّ لغة استفزازيّة تهدّد السّلم الأهليّ، وتدفع البلد إلى فتنة داخليّة، وتبعده عن قضاياه الأساسيّة والمعيشيّة.