هلاك المبطرين سنَّة الله في الأرض

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.

يُحدِّثنا القرآن الكريم عن سُنّةٍ إلهيّةٍ، تتمثَّل في إهلاك القرى الّتي كانت ما إن تزداد ثرواتها وامكاناتها وتُغدق النّعم عليها، وتنتقل إلى حال الرّخاء والبحبوحة، حتى يبطر أثرياؤها وأغنياؤها، وتكون النّتيجة الحكم على نفسها بالهلاك.

والخراب في عصرنا ليس بالضَّرورة أن يحدث فجائيّاً كعقابٍ مباشرٍ من الله، كما حدّثنا القرآن عن بعض القرى والأقوام كقوم عاد {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، أو أصحاب الجنَّة {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}، وغيرهم ممن نزل بهم العقاب المباشر { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ }، إنما يكون مسار الخراب على مهل، ويأتي الهلاك كنتيجةٍ لأسبابٍ سنَّها الله في الكون، كتبديد الموارد والثّروات، وهدرها والعبث أو الاستئثار بها، والفوضى في التعامل معها. لذلك تستطيع القول أن الأمم التي تراها الآن تعيش البطر، هي محكومة بالاندثار والهلاك والسقوط.

وقد حدَّثنا التّاريخ عن كثيرٍ من الأمم والحضارات كانت ذات صولةٍ وجولة، ويُهَابُ حضورها، صار حالها بعد القوَّة ضعفاً، وبعد الغنى فقراً، وصارت بعد العمران خاويةً عروشها، وذلك عندما كفرت بأنعم الله، ولم تستجب للفطرة الإنسانيَّة التي أودعها الله في الخلق، والّتي تقتضي أن يكون الإنسان خيراً نافعاً، لا جشعاً أو شرّيراً، كما لم ترتدع بالأوامر والنَّواهي في ما يتعلَّق بحسن تقدير هذه النِّعم وتدبيرها، وابتليت بداء البطر.{وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ }

 

معنى البطر وتجلّياته

والبطر في اللّغة، أيّها الأحبَّة، هو التّبختر وشدَّة المرح، والطّغيان عند وفور النِّعمة والغنى، وهوهذا الزهوٌ الذي يعتري الإنسان عند إقبال النِّعمة عليه. وبَطِرَ: أفرط في المعاصي والذّنوب، وفي الإسراف والتَّبذير وإنفاق المال لغير حاجة، أو بدَّد الخيرات في غير طاعة الله سبحانه.

والبطر يتجلَّى أوّلاً في السّلوك الفرديّ كمرضٍ نفسيّ يصبح المرء من خلاله لا همّ له إلا لفت الأنظار إلى ما يملك، وهو البطر بالمفهوم المادّيّ، والمثال القرآنيّ الأبرز له هو قارون، قارون الّذي كان مضرب مثلٍ في الثّراء وإقبال النّعم عليه، الذي يجعل الإنسان لا يحسن التعامل مع النعمة، واغتراره بما يملك، وشعوره بالبطر،انَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. وقد قصَّ القرآن الكريم كيف كان يتصرّف، ونمط عيشه، ليثبت صورة الشَّخص البطِر والعقاب الّذي يلحق به.

إنَّ البطر يؤدّي بالفرد إلى أن يقفل تفكيره عن أسئلة مهمّة بخصوص من يرزقه،قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚوأسباب استنزال الرّزق، ويصبح جلّ همّه أن يصرف، كأنّ المخزون الّذي لديه هو من عنده، وأنّه لا ينفد، فيدخل في لعبة الفساد والإفساد والتملاق، والإسراف إرضاءً لأهوائه، ويصبح تصرّفه بالنِّعمة بلا رحمة، وتصبح سلوكيَّاته استهلاكيّةً لا مسؤولة… ويصبح ما ينفقه أحدهم في شهر ترفاً وبطراً يوازي مدخول أفراد لسنوات.

 

مخاطر البطر

إنّ سلوك البطر ـ أيّها الأحبّة ـ وخلفيّته النفسيّة، من شأنه أن يحدث فجوةً وهوّةً اقتصاديّة ومعيشيّة بين النَّاس، وتدريجيّاً، تتَّسع هذه الهوّة لتطال طبقةً بحالها. ويتحدّث علماء الاقتصاد عن ازدياد الفارق بين الطبقة الغنيّة والفقيرة، وبالتّالي، ذوبان الطبقة المتوسّطة التي هي صمّام أمان المجتمعات، وهذه المشكلة هي نتيجة عوامل مجتمعة: بطر الأفراد، وبطر من هم في مواقع المسؤوليّة ومعهم خزائن الأرض، إضافةً إلى عدم وجود سياسات عادلة لتوزيع الثّروات وسياسات تنمويّة طويلة المدى وما إلى هنالك. وهذه هي التي سعى الإسلام إلى تحقيقها عندما جعل من أموال الأغنياء أقوات الفقراء.

 

لهذا، قد يتعدَّى البطر سلوك الأفراد إلى مجتمعاتٍ وبلادٍ بحالها، حيث يغدق الله نعمه وثرواته الطبيعيَّة على بلدٍ أو منطقة، فيغتني أهلها، ويتعاملون مع الثَّروة أنها ملكهم، ويمكنهم صرفها فيما يشاؤون من دون حساب المستقبل ولا أيِّ حساباتٍ أخرى، ويكون مدخول الفرد هائلاً، والتَّقديمات لا تتوقَّف، كأنَّ النَّاس يعيشون في فندق، خمس نجوم حتى إنهم لا يحتاجون إلى الإنتاج والتعب، وتصيبهم البلادة، ويكون مصيرهم متوقّعاً بعد نفاد الثّروة…

مسؤوليَّة حفظ الثّروات

أيّها الأحبَّة: إنَّ السياسات الاقتصاديَّة النَّاجحة في العالم، تدرك تماماً أنَّ الثَّروات الطبيعيَّة، من غازٍ أو نفطٍ أو معادن، هي ليست ملك النَّاس المعاصرين، إنما ينبغي ادّخارها للأجيال اللاحقة أيضاً. لهذا، فإنَّ أيَّ سلطةٍ تُحسن إدارة النِّعم، فهذا يعني أنها تعرف قيمة هذه الموارد وأهميَّتها، ولا تدع مواطنيها يعيشون البطر، وفي الوقت نفسه لا تحرم شعوبها. على العكس، هي توفّر لمواطنيها حياة إنسانيّة راقية تحفظ الكرامات. أليس هذا ما نشهده في بلادٍ تجذب المسلمين للعيش فيها؟

نحن لا تنقصنا النَّماذج، دعونا نستحضر تجربة النبيّ يوسف(ع) كما يقدّمها لنا القرآن الكريم: سبع سنوات سمان، حيث الغلال الوافرة والمطر الكثير، بعدها السّبع العجاف.. ماذا فعل النبيّ يوسف؟ لم يدع النّاس تتمادى في صرف النّعم وصرف ما في خزائن مصر، فسنَّ سياسات واضحة وذكيّة، حتى عندما جاء زمن القحط، هلكت مجتمعات كثيرة، فيما نجا أهل مصر وصاروا مقصداً للآخرين.

 

التّوازن في العيش

لهذا، وعلى المستوى التربويّ للإمام عليّ(ع)، نصيحة في هذا الشّأن يقول فيها: "اخشوشنوا، فإنّ النّعم لا تدوم".. البعض يتحفَّظ عن هذا الحديث بحجّة {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، وأنّه بالحلال وليس بالحرام… وإلخ. ونحن باستحضارنا للحديث، لا نقصد جلد الذّات والعيش في تقشّف وبؤس وتباؤس، إنما المطلوب الدّوس على الفرامل، والتخفّف من ثقل التنعّم الزائد، ومن الرّفاه حتى البطر.

الإسلام، أيُّها الأحبَّة، ليس دين رفاه، كما هو ليس دين زهد… والمنعَم عليه إن لم ينتبه لنفسه ولوسوسات الشَّيطان، فإنَّ الأشياء من حوله ستملكه وتتحكَّم به.. البطر يتحوَّل إلى داءٍ عندما تسيطر النِّعم على المترفين وتتملَّك أرواحهم وقلوبهم.. المترف ليس حرّاً عندما يملك المال أن يتصرَّف به على هواه بدون حساب… أبو ذرّ الغفاريّ كان مدرسةً في التّعامل مع النّعم. ومما يروى عنه، أنّ حريقاً شبَّ في بلده، ودبّت الفوضى. النَّاس تريد أن تُخرج أغراضها وممتلكاتها، أمَّا هو، فقد حمل جرابه على كتفه ومشى، وعندما سألوه قال: هكذا ينجو المخفّون يوم القيامة..

إنَّ المقصود من دعوة الإمام الإنسان إلى أن يخشوشن، ليس أن يلبس الخشن بالمعنى الحرفيّ، إنما بأن يتوازن في عيشه، أن يتحرَّر من سلطة الأشياء عليه، وأن يتحرَّر ويتخلَّى عن سلوكيّات شرائيَّة اعتادها، إلى درجة ملء الرّفوف والخزانات والغرف بأغراضٍ وثيابٍ وأثاثٍ قد ينسى أنها موجودة لديه، وقد لا يستعملها أبداً حيث لا يأتيها الدّور.

 

البطر يهدّد اقتصاد المجتمعات

أيُّها الأحبَّة، إنَّ النَّتيجة المؤكَّدة لزيادة عدد المترفين في الأمَّة، هو تعريض اقتصادها لهزَّاتٍ تزعزع أساساته، كما تعرّض علاقات التّعاون والتّكافل للتّلاشي والاندثار، وفي تاريخنا الإسلاميّ الكثير من القرائن.

فحين كان المسلمون يمثّلون الإسلام بصفائه ونقائه، من الرّسول إلى بقيّة المؤمنين، تمرّد معظم هؤلاء على حياة الترف، وخصوصاً الّذين عرفوا الرّخاء قبل إيمانهم: مصعب رفض الحرير واكتفى بالصّوف حين التحق بركب الرّسالة.

وحين تسلّم المترفون زمام السّلطة، عادت مظاهر البطر إلى السلطة وإلى النّاس. جاء سلاطين وذهب سلاطين، وبات البذخ والترف مظهراً دائماً من حياة ملكٍ سمّى نفسه أمير المؤمنين. خذوا هشام بن عبد الملك مثلاً، يذكر المؤرّخون أنّه اجتمع عنده ألفا قميص موشَّاة بالحرير. وكانت كسوته إذا حجَّ تُحمل على ٧٠٠ جمل. هذا نموذج…

أيُّها الأحبَّة: انطلاقاً من الرَّادع الرّوحيّ، يمكن للإنسان أن يربّي نفسه، يتَّعظ بمواعظ الله ومواعظ الحياة، وما أكثرها!.. أن يعود إلى الله تعالى.. يشكر النّعمة الجديدة، ويقفل الباب في وجه الشّيطان، فلا يبطر ويبذّر ويتكبّر..  وعلى صعيد مجتمعنا، فإنَّ سلوكيّات التراحم والتَّكافل والتّآخي بين من أنعم الله عليه وبين من ابتلاه الله بالفقر، هو أقلّ ما يمكننا فعله في زمن الفساد المنظَّم، وتبديد الثّروات والمقدّرات. إنّ القاعدة الذهبيَّة في الاقتصاد وتوزيع الثّروات هي: "ما جاع فقير إلا بما متِّع به غنيّ". 

سلام على أمير المؤمنين، وإمام المتّقين والزهّاد في المال والعباد والسّلطة.

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله ومحبَّته والحرص على نيل رضاه، فهذا الرّبّ فتح لك الأبواب واسعةً في اللَّيل والنَّهار، وفي كلِّ وقت، ومعه لن تكون محتاجاً إلى أن تشحن رصيد هاتفك، أو إلى قول: أعتذر عن إزعاجك في هذا الوقت، أو أن ترفع صوتك ليسمعك.. هو يسمعك ولا يملّ، ولا يقول لك: تحدَّثنا في هذا ألف مرّة.. أرجوك لا تتحدَّث فيه معي مرّة أخرى.

هو الوحيد الَّذي لا تخجل أن تحكي له كلَّ شيء.. هو الوحيد الَّذي لا تخجل من البكاء أمامه، أو أن تكون معه أثناء سجودك في لقاءٍ خاصّ.. قد تبكي بكاء المضطرّ وتنام، والله لا ينام عن تدبّر أمورك.. تراه يدبّر لك في الغيب أموراً لو علمتها لبكيت فرحاً.

يقول أمير المؤمنين(ع): "لو أطبقت السَّماء على الأرض، لجعل الله للمتَّقين فتحات يخرجون منها، ألا ترون قولالحقّ تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}؟!".

فمعه نحن في أمان، ومعه نستطيع أن نواجه التّحدّيات، بل أصعبها.

 

الحراك يوحِّد اللّبنانيّين

والبداية من لبنان، الَّذي يتواصل فيه الحراك الشّعبيّ بأشكاله وعناوينه المختلفة، في مواجهة التردّي السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والبيئيّ، الَّذي تتحمَّل مسؤوليَّته الطَّبقة السّياسيَّة الحاكمة، لدورها فيه أو لسكوتها عنه.

لقد استطاع هذا الحراك، رغم الملاحظات الّتي قد تطرح حوله، أن يحقِّق إيجابيَّات لا يمكن التنكّر لها، عندما أخرج الصِّراع في لبنان من بعده الطائفيّ والمذهبيّ إلى بعده المطلبيّ والمعيشيّ، وساهم في توحيد اللّبنانيّين الَّذين هم أحوج ما يكونون إلى قضايا مشتركة يتوحَّدون عليها، وأعاد القضايا المعيشيَّة والحياتيَّة إلى الواجهة، وجعلها من الأولويَّات بعدما كانت تعتبر من الهوامش، ولم تكن سوى أداةٍ في الصِّراعات السياسيَّة والاحتقانات الطائفيّة.. وقد بات يشكِّل قوّةً ضاغطة على الطبقة السياسيّة، الّتي صارت تحسب له كلّ حساب في قراراتها ومواقفها.

 

لكنَّنا مع كلِّ هذا، نخشى كما يخشى الكثيرون، انطلاقاً من تجارب التّاريخ القريب أو البعيد، في كلّ حراكٍ شعبيّ غير واضح في قيادته أو مشروعه، من اختطافه أو استغلاله لحساب أجندات إقليميّة أو دوليّة، كما نخشى أن يكون سبباً للدّخول في الفوضى الّتي يعانيها أكثر من بلدٍ عربي، أو أن يكون أداةً أو وسيلةً لتصفية حساب مع هذا الفريق أو ذاك، أو هذا المحور أو ذاك، أو أن يكون باباً قد يؤدّي إلى صراعٍ مع هذا المذهب أو ذاك، أو هذه الطّائفة أو تلك، نظراً إلى ارتباط هذا الموقع أو ذاك في هذا البلد، بطوائف أو مذاهب أخرى.

 

ومع هذه الخشية الّتي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار لواقعيّتها، لا ينبغي أن تؤخذ ذريعةً تبرّر للبعض إجهاض هذا الحراك، والتنكّر لكلّ هذه الصرخات العالية التي خرجت من أعماق النّاس، والعمل على كمّ أفواههم، حتى لا يشيروا إلى نقاط الضّعف التي يعانيها الواقع السياسي المترهّل الّذي لم يجد حلولاً حتى لأبسط القضايا، ولا سيَّما في ملفّ النّفايات، فضلاً عن القضايا الكبيرة.

إنَّنا ندعو إلى الإصغاء إلى أصوات النّاس، والتّعامل معهم بكلّ جديّة ومسؤوليّة، وإشعارهم بأنّ أصواتهم مسموعة، والإسراع في إيجاد حلولٍ عمليّة يشعرون معها بروح جديدة عنوانها المحاسبة وإزالة الفساد…

 

إنّنا نستطيع القول بالفم الملآن، وانطلاقاً من وعينا لمشاعر النّاس: إنَّ هؤلاء النّاس ليسوا مع الفوضى، ولا يريدون الفراغ، ولا إسقاط الهيكل على رؤوس الجميع، بل يريدون للهيكل أن يبقى، ولكن أن يكون رُعاته أكثر إنسانيّةً وأكثر عدلاً وأكثر إنصافاً.. إنّ الناس يريدون من السياسيّين أن يتّفقوا لأجل مصالح الشَّعب، لا على مواجهته، وأن يختلفوا لحسابه لا لحساب مشاريعهم الخاصّة أو محاصصاتهم.

ومن هنا، نرى أهميّة الحوار الّذي دعا إليه رئيس المجلس النيابي في التاسع من هذا الشّهر، لكن إن أحسن المتحاورون التَّعامل معه، ووضعوا في أجندتهم مطالب الناس وهواجسهم، وقرّروا أن يجدوا حلولاً واقعيّة، لا بمسكّنات بل بالدّواء الشّافي، فالنّاس يريدونهم أن يكونوا لمرّة واحدة بمستوى آلامهم ووجعهم، وأن يخرجوا من حساباتهم الخاصّة وطموحاتهم ورهانهم على هذا المحور أو ذاك، لصالح إنسان هذا البلد، الذي يفكّر كلّ يوم في أن يتيه في بلاد الله الواسعة، وهناك من قرّر وغرق في هذا الطّريق، وهم بذلك لن يخسروا، بل سيربحون أنفسهم وشعبهم ومستقبل بلادهم..

 

إنَّنا مع الأسف، لم نرَ أنَّ تصرّف الجهات المعنيّة ارتقى إلى تلبية الحدّ الأدنى من متطلّبات إدارة شؤون النّاس، آملين أن يتمّ ذلك بأسرع وقت، بحيث نرى الدّولة أكثر رفقاً ووعياً وأكثر مسؤوليّة، فلا تنظر إلى الناس كأعداء، بل كما قال الإمام عليّ(ع): "وأشْعِرْ قلبَك الرّحمةَ للرعيَّة، والمحبّةَ لهم واللُّطفَ بهم، ولا تكوننّ عليهم سَبُعاً ضارياً تَغتنم أكلَهم؛ فإنّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق".

 

مأساة السوريّين ومسؤوليَّة العرب

هذا في لبنان، وليس بعيداً من لبنان، فقد ضجَّت وسائل الإعلام بمشهد ذلك الطّفل الذي كان مرميّاً على الشاطئ في تركيا تتقاذفه الأمواج، وهو لم يكن المشهد الأوّل، بل سبقته مشاهد كثيرة لم تسلّط وسائل الإعلام الضّوء عليها، أو لم تكن بالبراءة التي ظهر عليها هذا الطّفل، وبالوضعيَّة الّتي كان عليها.. إنّه واحد من مئات المهاجرين الّذين ابتلعهم البحر المتوسّط، أو قضوا في البرّ.. فقد نقلت الأخبار موت العشرات في شاحنة كانت تقلّهم، إمَّا خنقاً بسبب الحرارة، أو من الثّلج بعد أن تجمّدت أجسادهم.

إنَّ هجرة هؤلاء من بلادهم بهذه الطريقة التي يعرّضون فيها حياتهم وحياة أولادهم وأحبّائهم للخطر، ليست إلا انعكاساً للواقع الدّمويّ الذي تعيشه هذه المنطقة، ولا سيّما سوريا.

 

أمام هول هذه المأساة، والّتي هي بالمناسبة موجودة، ونراها يوميّاً في منطقتنا منذ زمنٍ بعيد، في المجازر الّتي ارتكبها العدوّ الصّهيوني، وأيضاً على أيدي الجماعات الإرهابيَّة، أو من خلال مشاهد القتل الّتي تجري في أكثر من ساحة، أمام ذلك، نودُّ أن نعلِّق بتعليقين سريعين:

 

أوّلاً: عن الوجهة الّتي يهاجر إليها هؤلاء، وهي بلاد الغرب. وهنا السّؤال: لماذا إلى الغرب؟ لماذا لا تفتح لهؤلاء أبواب البلاد العربيّة والإسلاميّة، ولا سيّما تلك الدّول التي لها دور فيما يحصل في سوريا أو العراق أو في كلّ ما يجري؟ فهي ترفض استقبال أيِّ لاجئ، رغم الإمكانات الماديّة الهائلة التي تمتلكها، ونحن لا ننفي الدّور الّذي تقوم به الدّول الغربيَّة في العنف الحاصل أيضاً في سوريا أو غيرها.. ولكن على الأقلّ، ما نشهده من تعاطف شعبيّ وإعلاميّ في الغرب، يفوق التّعاطف الذي تشهده دول منطقتنا.. ففي دول الغرب، انطلقت المسيرات الشّعبيَّة لتطالب بتأمين مكانٍ آمن لهؤلاء.. وقد كلّفت الدّول الغربيّة نفسها لتجتمع وتفكّر في كيفيَّة التّعامل مع هؤلاء، وطريقة استيعابهم، رغم تحفّظنا على التّمييز بين النّازحين أنفسهم على المستوى الدّينيّ.

ونقولها بكلِّ ألم: لماذا لم تدعُ الجامعة العربيّة أو منظّمة التعاون الإسلامي إلى اجتماع عاجل لتدارس أسلوب التّعامل مع هؤلاء النَّاس؟ فمن ناحية العروبة هم عرب، ومن ناحية الدِّين هم مسلمون.. وحتى الشّعوب العربيَّة لم تتحرَّك كما تحركت الشّعوب في الغرب، لتضغط على حكَّامها لاستقبال هؤلاء.

مع الأسف، هناك من يحمّل هؤلاء المهاجرين المسؤوليَّة، ولم يسأل أحد: لماذا وصل هؤلاء إلى حدٍّ يضحّون بأنفسهم وبعائلاتهم من أجل الخروج من جحيم واقعهم؟!

 

التّعليق الثّاني: نقولها لكلّ من هم في مواقع القرار والمسؤوليّة، ممن يساهمون في إذكاء الحروب: ألا يكفي كلّ هذا حتى يتداعوا لإيجاد حلولٍ تعيد إلى هذه البلاد أمنها واستقرارها، بعد أن عبث العابثون بها؟!

لن نطلب من دول أوروبّا والغرب أن تكون رفيقةً بشعوبنا، ولكنّنا ندعو المسلمين والعرب إلى أن يكونوا رفقاء بشعوبهم.. أن يكونوا أمناء على القيم العروبيّة والإسلاميّة، ولو لمرّة واحدة.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله 

التاريخ: 20 ذو القعدة 1436هـ الموافق :04 أيلول 2015م
 

 

Leave A Reply