كلمة السيد فضل الله في المهرجان التضامني الذي اقيم بمناسبة عامين على اختطاف المطرانين بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم

عامان مضيا والمطرانان العزيزان بولس يازجي ويوحنا إبراهيم مغيَّبان عن أهلهما ورعيّتهما، وعن وطنهما ومحبّيهما.. ولا خبر بعد جريمة اختطافهما.. ويخشى أن لا يكون هناك خبر، وإن كان الأمل بالله دائماً..

ويبقى السّؤال: لماذا يُخطف مطرانان كانا بعيدين عن كلّ ما يجري من حولهما من إثارة أحقاد وفتن وتوتّرات، بل كانا صمامي أمان في كلّ ذلك.. وكانا عنواني محبّة، ورسل تواصل بين المختلفين والمتنازعين؟

 

نسأل والألم يعتصر قلوبنا لكلّ ما يجري، مما هو بعيد كلّ البعد عن تاريخ هذه المنطقة، حيث المساجد تعانق الكنائس، وأتباع الأديان لا يتعايشون مع بعضهم البعض فحسب، بل يتشاركون في الأوطان والمصير.. ويقفون صفاً واحداً في وجه المحتلّ والغازي: ما الّذي جرى حتى وصل بنا المطاف إلى ما وصلنا إليه؟

الجواب، أيها الأعزاء، صعب ومعقّد بصعوبة وتعقيد هذا الصّراع، الّذي لم يعد تعبيراً عن شعوب تعاني وتطالب بحقوقها.. بل دخل على خطّ هذه المعاناة من يريدون لهذه المنطقة من العالم أن لا تهدأ.. لينفثوا فيها أحقادهم تجاه كلّ الَّذين يختلفون معهم، ليعبثوا باستقرارها وأمنها وبتاريخها وبقيمها.

 

وأمام هذا الواقع بكلّ آلامه وجراحاته: هل نسقط؟ هل نحبط؟ هل ننتظر مصيراً مشابهاً؟ هل نخرج من أرضنا وبلادنا لنتركها للعابثين.. وهي أرض ليست أرضاً عادية.. هي مهد الرسالات والأديان؟!

وأحسب وتحسبون جميعاً، أنَّ الخاطفين يريدون ذلك.. يريدون أن تتلوّن هذه المنطقة بلونهم الواحد.. لونهم الباهت.. يريدون أن تفتقد كلّ هذا التنوّع الّذي ميّزها وجعل منها أنموذجاً يحتذى في قدرة الديانات والمذاهب على أن تعيش معاً وتتعاون فيما بينها.. وتجد فيما بينها الكثير من القواسم المشتركة.

لا خيار لنا إلا أن نبقى في هذه الأرض.. أن نجذّر فيها وجودنا… أن نحافظ عليها.. حتى لا نكون خائنين لكلّ الّذين حفظوها بدمائهم وجراحهم وآلامهم.. أن نبادر ونتحرّك.. أن نستخدم كلّ وسائل الاحتجاج والاعتراض.. أن نطلق الصّوت معاً مسلمين ومسيحيين، لأنّ الخطر يتهدّد الجميع.. لأنّ هذا المنطق التكفيريّ لا يعترف بأيّ مختلف معه.. ولذا، هو يستهدف المساجد والحسينيات والمقامات الدينيَّة، استهدافه للكنائس وأماكن العبادة الأخرى.

ولذلك، الخطر داهم على الجميع، ومن المطلوب منهم أن يتكاتفوا في مواجهته، وليكن الموقف في ذلك موحّداً.. لكن ليس بالطريقة التي يدعو إليها البعض، أي من خلال تجمّع الأقليات الّذي يثير الأكثرية، بل على أساس العمل معاً كأتباع رسالات سماويّة لا تفرّق بين أحد من الرسل.

 

لكن هذا لا يعني بالخصوص التغاضي عن خطر يتهدَّد المسيحيين.. فهناك خطر أكبر يتهدّدهم.. وبغير ذلك، نجافي الحقيقة.. وإن كنا ندعو إلى عدم تضخيمه، حتى لا نزيد الأمور سوءاً، بل لا بدّ من أن نضع ما يواجه المسيحيين ضمن الصّورة العامّة التي تعانيها المنطقة بشكل عام، مع أخذ لبعض الخصوصيات في الحسبان لمعالجتها وحلّها.

إنّنا نرى خطراً يتهدّد قضيّة المسيحيين في النّظرة إليهم كدين، ممن لا يراهم جزءاً من مسيرة الأديان وتكاملها، ولا يرى فيهم الصّورة التي عبّر عنها رسول الله، عندما جاء مصدّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل.. أو ممن ينظر نظرة خاطئة إلى مسيحيي المشرق، ليصنّفهم في خانة المشروع الغربيّ.. ليحمّلهم كلّ تبعاته والمآسي الّتي تأتي منه.. فيما الوجود المسيحيّ هو الأصل في هذا الشرق، وهو الأصل الذي انطلقت منه المسيحيَّة إلى العالم، كما أنَّ الوجود المسيحيّ في هذا الشرق.. ونحن نعرف مدى الآثار الّتي تركها العلماء والمفكّرون المسيحيّون في العالم العربي، وكم من الدماء التي نزفت من المسيحيّين في سبيل حفظ هذا المشرق!

 

هناك خطر يتهدّد المسيحيين من هذه الحرب المشتعلة الّتي تجتاحهم، ومن اتجاهات التكفير والإلغاء، ومن الغرب نفسه؛ من الإدارات الغربية غير الآبهة ممن يريد أن يقتلع وجودهم من هذه الأرض، ولعلَّ الغرب، وهو المسكون بمصالحه الذاتيَّة، يعمل لتشجيعهم على الهجرة إلى بلدانه، لعلّه بذلك يشكّل نوعاً من التوازن الديموغرافي، وذلك في سياق تعزيز أوضاعه الداخلية.

إنّنا أمام ذلك، ندعو إلى تأكيد الموقف الإسلاميّ، باعتبار المسيحيين جزءاً من حركة الرسالات، وأن العلاقة التي تحكمهم بالمسلمين هي علاقة عهد وتشارك.. فهناك عهد يحكم علاقتهم بالمسلمين.. وواجبنا جميعاً أن نحمي بعضنا البعض، والمسلمون يتحمّلون المسؤولية الأكبر في هذا المجال، وإن كنا نريد الدولة الجامعة الّتي من مسؤوليّتها أن تحمي الجميع.

ونحن في الوقت نفسه، نعيد التّشديد على المسيحيين تجذير وجودهم في هذا الشَّرق.. وأن لا يشعروا بأنَّهم طارئون فيه.. وإذا كانت هناك أوضاع أمنيّة قلقة تصيبهم، فهي تصيب الجميع.. وندعوهم إلى أن لا يغادروا هذه الأرض.. وإذا اضطرّتهم الأوضاع إلى أن يهاجروا، فعليهم ألا يفكّروا في البقاء هناك، بل أن تكون هجرتهم هجرة المضطر الّذي يفكّر كلّ يوم في العودة، حتى وإن سهّل لهم الغرب كلّ سبل الإقامة الدائمة عنده.

إنَّ للمسيحيين دوراً أساسياً في مواجهة كلّ ما يجري في هذا الشرق من فتن.. ودورهم أن يكونوا قوّة ضغط لإيقاف نزيف الدم هذا، من خلال علاقاتهم بكل المؤسَّسات الكنسيَّة في العالم. وللفاتيكان دوره في هذا المجال، كما الرأي العام العالميّ، الذي يعيش المسيحية في وجدانه، ولو نسبياً…

إنّنا نقول لكلّ الذين يتحدَّثون عن معاناة المسيحيين في الغرب، إنّ الحفاظ على الوجود المسيحيّ يكون بإيقاف نزيف الدّم في المنطقة.. وبتعزيز الحوار بين كلّ المكوّنات.. وبمنع المعتدي من التّمادي في اعتداءاته ودعم قيام الدولة المركزيّة القويّة.. وللمؤسّسات الدوليّة دورها في هذا المجال.

 

إنّنا نقول للمسيحيّين: أنتم تمثّلون علامة فارقة في هذا المشرق، حين يكون دوركم الجمع والتآلف حتى بين المسلمين، عندما يتنازعون ويتصارعون.. حتى وإن كان لكم رأيكم فيما قد يجري من نزاعات وخلافات.. لكننا نريدهم أن لا يدخلوا في الصّراعات، وأن لا يكونوا طرفاً فيها. وهذا لا يتمّ إلا بخروج المسيحيّين من حال الإحباط.. وبأن يروا أنفسهم جزءاً من أمة.. فليس هناك أقليات في عالم بات يتحدث عنه أنه قرية واحدة.. المسيحيون أقوياء بتاريخهم الغني في هذا المشرق.. بنخبهم وفعاليّاتهم السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في جميع بلدان العالم، ولا سيّما في بلدان الاغتراب.. إننا نرى الإمكانيَّة لاستعادة الثّقة بالذات، والانطلاق إلى مرحلة الفعل والتأثير…

 

ونعود إلى لبنان، لنؤكّد ضرورة إبقائه النّموذج على مستوى حفظ الوجود المسيحيّ فيه.. ومن هنا، تأتي الدّعوة إلى الإسراع في انتخاب رئيس للجمهوريّة، لما له من دور في بثّ الطّمأنينة، ليس لمسيحيي لبنان فحسب، بل لمسيحيي المنطقة.. ولتعزيز الحوار المسيحيّ ــ المسيحيّ.. ونشدّد على استمرار الحوار الإسلاميّ ــ الإسلاميّ.. ليبقى لبنان معلماً في هذا الشَّرق، في قدرة الأديان على التّعايش والتكامل وبناء دولة المواطنة.

 

من الطَّبيعيّ في مثل هذا البلد، أن يكون لكلٍّ علاقاته، ولكن ما نريده، أن لا يكون ذلك على حساب استقرار لبنان وأمنه ووحدته، بل لحساب حفظ هذا الوطن، الّذي يمثّل نموذج التعايش في المنطقة، وتلك مهمّة كبرى تتطلَّب أن نقف معاً لمواجهة عبث العابثين به، الَّذين يريدون تخريب المنطقة وإضعافها.. ومن هنا تأتي مسؤوليّة اللبنانيّين.

تحيَّة إلى المطرانين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم أينما هما.. وندعو الله أن يكونا في الغد القريب بيننا، ليشاركا في مسيرة المحبَّة والسَّلام.

 

 

Leave A Reply