رمضان.. زمن الوحدة ونبذ الفرقة
شهر رمضان هو الشهر الَّذي يثري الزمن ويغنيه ليمتدّ بالقيم المودعة فيه بكل تفاصيله، ليكون الزمن الذي يغتني فيه العقل بوعي معنى الوجود، ويغتني فيه القلب بالطهر والصفاء، وتضج فيه الحياة بروح العطاء وينابيع الخير والمحبة التي تعيد الروح والأمل إلى المتعبين والمساكين والمتألمين والمستضعفين والمحرومين.. فلا تعود الحياة مجرد لعب ولهو، أو هروباً وانهزامية عن وعي ما يجري حولنا، كما يعيشها المترفون اللاهون، بل تكون إنسانية تغني ما حولها ومن حولها.. ولذلك، تصير الأنفاس تسابيح والنوم عبادة والدعاء مستجاباً، وتعظم العطاءات..
إن الطريق المعبّد إلى الله لا يمكن أن يمرّ إلا بالتخفيف من آلام الناس، ورفع معاناتهم، والنهوض بهم، وإخراجهم من مهاوي الجهل والتخلف والفقر.. «فالخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.. ومن أدخل على أهل بيت الله سروراً».. والإنسان لا يبلغ القمة في العبادة حتى يكون مشّاءً في قضايا الناس.
أما الأنانيون الذين يختنقون في ذواتهم، ولا يرون الناس إلا أرقاماً أو وسائل وأدوات لتحقيق أطماعهم ومصالحهم الخاصة.. فهم أبعد ما يكونون عن الله، هم لا يعرفونه، ولو عرفوه لتمثلوه في سلوكهم عطاءً، كما هو مع عباده، يفيض عطاؤه نوراً ومطراً وينابيع تتفجر بكل ألوان الخير..
الأنانيون هم مشكلتنا في هذا الوطن، وفي كل الأوطان، لأنهم لا يرون الوطن إلا بقرة حلوباً لحساب مصالحهم، فيستنزفون موارده ومقدراته، من دون أن يرفّ لهم جفن.
ونحن لا يمكننا أن نعطي للبنان المعنى الذي يستحقّه، كبلد فيه كلّ هذا الثراء الديني والمذهبي، إن لم يحمل في كل مكوناته ومواقعه عناوين التسامح والانفتاح والمحبة والرحمة في كل منطلقاته وتنوعاته.. وعندها فقط يتحوّل البلد إلى قيمة تجمع لا تفرق، وإلى رسالة ترشد وتوعي، وعندها لن نجد مسلماً يطالب بحقوق المسلمين فقط، ومسيحياً يُطالب بحقوق المسيحيين فقط، أو سنياً يطالب بحقوق السنة، أو شيعياً بحقوق الشيعة، أو درزياً أو غير ذلك من التنوعات، بل سنجد مسلماً يطالب بحقوق كل اللبنانيين، ومسيحياً يريد الخير للجميع.. فالأنبياء والرسل لم يحملوا هَمَّ الذين ساروا معهم فقط، بل هموم كل الناس.. ولا بد لأتباعهم من أن يكونوا على صورتهم..
ولذلك، فإن الذين يحصرون حديثهم بالمطالبة بحقوق المسيحيين: يسيئون إلى المسيحية والمسيحيين، كما إن الذين يحصرون حديثهم بالمطالبة بحقوق المسلمين: يسيئون إلى المسلمين والإسلام.. بينما المطلوب هو أن نعلي شعار رفع الغبن عن الجميع، لأننا لا يمكن أن نبني وطناً يشعر فيه الناس بالغبن، فالغبن هو مشروع فتنة وحرب ومشروع تدخلات للدول الطامعة.
إنني أرى أننا لا نتنفَّس في لبنان الأديان والمذاهب، فنحن لا نرى الأديان في الخطابات.. ولا في الممارسة السياسية.. أو في الأداء السياسي.. نحن نتنفَّس طائفية لا تحمل من الدين إلا اسمه، وعلى اسمه تستثار أحقاد التاريخ ومخاوف الحاضر.. وهذا ما شهدناه من وقت قريب في الكثير من الخطاب الانتخابي، وهذا ما سنشهده مع الأسف دائماً ما دمنا نفتقد المشاريع والرؤية لمستقبل الوطن، وما دمنا بعيدين عن الأخلاقيات السياسية.. ولذا سوف يستمر الكثيرون من المسؤولين في استخدام أبسط الطرق للتغطية على الفساد والأنانية وعلى الفشل والإبقاء على الأزمات والتهرب في معالجتها، من خلال استثارة الغرائز الطائفية والمذهبية..
ولذلك، حذَّرنا قبل الانتخابات النيابية من هذا الخطاب الطائفي والمذهبي، وقلنا إنَّ الناس في وادٍ آخر، وقد بيَّنت الانتخابات هذه الحقيقة، وأنَّ الناس يريدون من يحل لهم مشاكلهم ويعالج وجعهم وألمهم.. ولهذا انكفأوا عن المشاركة في الانتخابات، رغم كل هذا الخطاب، أو أعطوا فرصة إضافية لمن ينتخبونهم.. ونأمل أن تكون الرسالة قد وصلت، وأن يتحرك من يتسلمون مواقع المسؤولية للقيام بمسؤوليتهم ومعالجة مشاكل الوطن.. وما أكثرها! وما أكثر ما يتهددنا من حولنا وما ينتظرنا!
ولكننا – مع ذلك كله – نظل نأمل أن تحمل الأيام القادمة نفساً جديداً، وعقلاً فاعلاً، وروحاً منفتحة في إدارة كل مواقع الحكم، وبكلِّ تفاصيله وخصوصاً في تأليف حكومة في القريب العاجل حكومة نريدها أن تكون على صورة الأحلام التي وعد بها اللبنانيون، حكومة عمل لا حكومة تسيير أعمال، حكومة متعاونة لا حكومة مناكفات وصراعات، حكومة خالية من الفساد والمفسدين، حكومة تسعى لخدمة مصالح الناس لا لمصالح مكوناتها، حكومة تنقذ البلد من أزماته وتعمل على حمايته من تطورات المنطقة، لا حكومة هي انعكاس للتوترات الحاصلة في المنطقة والعالم..
أما التحديات الوطنية الكبرى فسوف يبقى رهاننا على وعي اللبنانيين ووحدتهم في مواجهتها، وهم عندما توحَّدوا انتصروا على أقوى جيش في المنطقة، وعلى التكفيريين، وعندما يتوحَّدون سيجددون هذا الانتصار على كلّ ما يتهددهم من الخارج ومن الداخل..
نحن عندما نتطلَّع إلى المشهد من حولنا في هذا الجوار العربي والإسلامي، كنا نرى، ولا نزال، في كلّ ما يجري من حولنا من حروب بالوكالة أو الأصالة، أن الهدف منها هو أبعد بكثير مما رفع من خلالها من شعارات حملت عنواناً إسلامياً أو قومياً تارة، وحملت عنواناً ديمقراطياً تارة أخرى…
ونحن لا نتنكَّر في كل ذلك لإرادة التغيير المطلوبة في هذه المنطقة.. ولكن جرى تضييع الكثير من الشعارات الكبيرة أو تشويهها، لتتحول إلى دخان يحجب كلّ تلك الارتكابات التي استهدفت إضعاف القوة العربية أو الإسلامية وتفتيت بلداننا بكل ألوان الانقسامات، ليمر المشروع الأخطر المتمثل في إنهاء القضية الفلسطينية، وتثبيت الكيان الصهيوني كحقيقة راسخة في المنطقة…
لقد رأينا كيف عمل الرئيس الأميركي وإدارته على أن تكون الذكرى السبعون للنكبة بمثابة الإعلان عن فصل جديد من فصول الإعلان عن نهاية فلسطين، وقيام الكيان الصهيوني بنقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ هذا الحدث الذي نعرف، كما يعرف الجميع، بأنه الخطوة الأولى في مرحلة يُراد فيها للقضية الفلسطينية أن تموت بالكامل، وأن تخرج من الساحة العربية والإسلامية، لتكون مجرد قضية شعب تُبحث في إطار الاعتراف بحق العدو في السيطرة على بلادنا وتطبيع العلاقات معه بعيداً من القدس وحق العودة…
لقد دخلت المسألة في المتاهات الخطيرة، ولم تعد الموازين فيها تنطلق على أساس أن نرضى أو لا نرضى، أو نشجب أو نستنكر.. فالصهاينة يريدوننا أن نخضع بالكامل، وأن ننظر إلى القضية الفلسطينية نظرة عابرة، ونحن نعرف أنَّ هذه القضية دخلت وتدخل في كل مفاصلنا، وأنها لم تعد قضية خارجية، بل تحوّلت إلى قضية تمس مستقبل بلداننا ومصير شعوبنا، فضلاً عن كونها قضية إيمانية وأخلاقية وإنسانية..
ونحن في الوقت الذي نلمس كلّ هذه الخطورة، لا نزال نرى بصيص أملٍ في هذه الجذوة المتقدة من الشعب الفلسطيني؛ هذا الشعب الصامد والصلب الذي لا يزال يبعث الأمل فينا جميعاً كلما أحسسنا بأنَّ الدنيا قد أطبقت فعلاً عليه وعلينا، ونحن نرى في مسيرات العودة التي انطلق فيها هذا الشعب كالسيل الجارف، واستشهد أبناؤه على أبواب فلسطين، أكبر تحدٍّ، ليس للعدو وحده، بل لكل أولئك الذين وقّعوا مسبقاً للعدو على فلسطين، وتنصَّلوا من القضية الفلسطينية..
إنَّ هذا العالم الذي نعيش فيه قد تغيّر كثيراً عما كان في العقود السابقة، ولن يعرف الاستقرار إلا بتفاهمات دولية وإقليمية على حساب سياسات التهديد والضغوط والتلويح بالحروب، التي أثبت التاريخ أنها لن تحقق لأصحابها إلا النتائج المرة.. وليس أمام العرب والمسلمين إلا أن يتوحدوا ويخرجوا من نطاق خلافاتهم وصراعاتهم حتى يجدوا لأنفسهم وبلدانهم مكاناً على هذا الكوكب الذي تظهر فيه التطورات المتلاحقة أن من لا يؤمن الحماية لشعبه وأمته بالإمكانات الذاتية وبالوحدة الداخلية سوف يلفظه الآخرون.. ودور شهر رمضان أن يُعيد إنتاج القوة فينا من خلال صياغتنا كأفراد ومجتمعات على أساس التقوى التي يستشعر فيها الفرد الحرص على مجتمعه وأمته وتشعر فيه الجماعة بأن كيانها كله سوف يهتز إن لم تجتمع على البر والتقوى وتتوحد في خط الإيمان وطريق الخير.