أحتفال عيد البشارة بسيدة الجمهور

 

العلامة السيد علي فضل الله في احتفال عيد البشارة بسيدة الجمهور 

خيارنا هو أن مواجهة التحدّي بالنموذج المريميّ في روح الغفران في الطهارة

 

من نور السيّدة مريم الحاضرة معنا في كلّ تواصل مسيحي ـ إسلامي، نستعيد رمزيّة اسمها في كلّ بشارة تضع قيمة الرّجاء والخلاص عنواناً لمستقبل الأمل في أن نعيش معاً بملامح مريم الطّاهرة من كلّ رجس ودنس، المصطفاة المطهّرة بحسب النصّ القرآني: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 42]، والمباركة الممتلئة نعمةً بحسب الأناجيل.

والغاية من إطلاق الأوصاف على الاسم، إنشاء المعنى من رسالة اختارها الله سبحانه، فكانت السيدة مريم الأمينة عليها في الجنين الّذي حملته مقدّساً، فكلّم النّاس في المهد صبيّاً، واحتمل سرّ النبوّة والكتاب، ليبدأ سلامه المتّحد بجلال أمّه من لحظة الولادة: {وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً". ولا شبيه لمريم والمسيح، فهما معاً من نفحة الرّوح، وهما معاً في آية واحدة: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 91]

وفي سورة المؤمنون: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}[المؤمنون: 50]

أيها الأعزاء:

إنّ ما يعنيني من ترتيل هاتين الآيتين في القرآن، هو الإضاءة على مريم الأمّ والابن في آية فائقةٍ معجزة، نتطلّع إليها في راهن الألم العالميّ وأزمته الحضاريّة، لا فقط من زوايا بلاغة التّطابق في حديث القرآن والإنجيل عن مريم، بل من واقع صدقيّة الإيمان المسيحي ـ الإسلاميّ في ثمرات هذا الإيمان وتجلّياته المضيئة في كلّ أسرة ومجتمع يصاغ على صورة مريم الصدّيقة القانتة: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التّحريم: 12] .

فلا يكون إيماننا بالمحبّة والحوار وسلام العالم مجرّد لحظة عابرة نستنجد بها عند حدوث الأخطار والأزمات أو نستحضرها في الأزمات الطارئة كما اعتدنا.

بل هو إيمان متجذِّر في أساس الدين، جوهره بناء الإنسان الكامل على صورة الكمال في أسماء الله الحسنى، والإنسان المضيء على صورة الرّسل والأنبياء، إنسان يفيض محبة ورحمة وعفواً وتسامحاً لا يعرف حقداً ولا انغلاقاً ولا تعصباً ولا رفضاً للآخرين، بل مدّ جسور التواصل مع كل الآخرين..

وبذلك يغدو الإيمان نماءً في قلب العمل، وتنميةً في عقل المسؤوليّة وبناء لسلام الحياة، ويبقى السؤال: كيف نفهم علاقة الإيمان بالسّلام، لتجيء الإجابة المسيحيّة ـ الإسلاميّة موصولةً بمدى مقدرة واقع مؤسّساتنا الرّوحيّة على هداية الأبناء الّذين يصنعون السّلام، أو في خصائص الأسرة القائمة على تجسيد السّلام الكامل من جميع جهات الحقّ والخير والكمال، بشرط حضور المرأة المثال والأمومة المثال .

ونحن هنا نستضيء مضمون إيماننا المشترك بمريم أمّ السيد المسيح، وفاطمة أمّ أبيها، ليزهر هذا الإيمان في الوطن الرّسالة، الذي أردناه ونصرّ أن يبقى وطن الرسالة، الوطن الأنموذج، الوطن القدوة, وطن نتجاوز فيه، حتى العيش المشترك لنصل إلى وطن الشراكة والمحبة، ولن نظفر بهذا الحلم من دون الخروج من ظاهرة المخاوف المتبادلة بين أديانه وطوائفه التي يزرعها من لا يريدون لهذا النموذج أن يبقى.

أيها الأحبة:

إنّ خيارنا هو أن نواجه هذا التحدّي بالأنموذج المريميّ في روح الغفران في الطهارة، في السموّ الروحي، وفي مناعة العفّة الّتي نريدها مثالاً لانتصار نظام العفّة على أنظمة الرّذيلة والفساد والانحراف، ولن يتيسّر لنا ذلك إلا بفضيلة التّقوى والصّبر على الآلام، في مواجهة كلّ سياسةٍ أمّارة بالظّلم والسّوء…

والبشارة ـ أيها الأحبة ـ لم تكن من غير ألم، كانت ممزوجة بالمعاناة قبل الولادة وأثنائها، ولكنّ مريم الملتحفة بسماوات صبرها النّازل من عند الله، تمشي مطويّة بالسّرّ الّذي تحمله في أحشائها.

والحكمة من أثر هذا الرّوح في مريم، أن نتعلّم من ثبات إيمانها وشجاعتها كيف نواجه حائط الزّجاج الطّائفيّ وقنوط اليأس فيه, وكيف نواجه موتنا اليوميّ بالخطيئة بحياة مريميّة ملؤها الطّاعة لله سبحانه وتعالى وهي الّتي خرجت من مخاض التحدّي إلى مخاض الولادة، ليصير السيّد المسيح ممتزجاً في جسدها ودمها، منوّراً بكلمة الله وصيرورتها المتجدّدة في كلّ جمال، من نظام القيم والأخلاق الّتي عميت عن أعين الحضارة الحديثة، فأذاقها الله فجيعتها بالأمن والسّلام، في كلّ ما يعتورها من محن الخوف والظّلم والجوع.

وها هنا يتلاقى الإيمان المسيحيّ ـ الإسلاميّ على الهموم المشتركة ذاتها، في البحث عن حلولٍ بتوليّة تحفظ الحضارة من شرّ ما اكتسبت من آثام أو أغلال تكبّل نهوض قيامتها على عين الله ورضاه.

أيها الأحبة:

إن ما بشّر به القرآن الكريم من الجانب الاجتماعيّ لتفسير معنى الدّين، هو نفسه الّذي جاء على لسان السيّد المسيح في النّاصرة: "مسحني الرّبّ لأبشّر المساكين، وأنادي للمأسورين بالتّخلية وللعميان بالبصر"[لوقا 4: 18]. ولا همّ لأمومة مريم في رجيع صداها الفلسطينيّ، إلا أن يمتدّ سرّها في كلّ وطن مأسور، أو عاصمة مسبيّة، وبذلك نفهم شيئاً من رمزيّة الإيمان المسيحيّ واكتماله في البشارة الفادية، وما يقابلها في الإيمان الإسلاميّ من فصاحة التّضحية والإيثار الّذي يصون حاضر العالم ومستقبله بالرّحمة كلّها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]

والمرتجى من أدبيّات هذه الثقافة المسيحيّة ـ الإسلاميّة، أن تساهم بولادة أوطاننا الّتي مزّقتها الانقسامات تحت شعارات دينيّة لا تمتّ إلى جوهر الدّين السماويّ بصلة.

 إذاً من مريم الرّوح نبحث عن ولادة الرّوح الجديد في تأكيد نسب المؤمنين جميعاً إلى أسرة النبوّة والأنبياء، فيما نستوحيه من كلام نبيّنا(ص): "أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم"، وما يرادفه من نداء السيّد المسيح(ع): "إنما جئت لأكمل النّاموس" .

كذلك، ومن عقل مريم نبسط في كلمة سواء مساحة هذه القيم المشتركة بنداء مريم الربّانيّ، مسكوباً بتوحيد الكلمة في وطن الكلمة والرّسالة، ومن نقاء مريم نقف على طهر الأمومة، لنبني على مثالها حلم الأسرة الّتي تلمّ شمل المسيحيّة والإسلام بجوهرة الأخلاق في معنى حقيقتها الجامعة.

ولا أبالغ إذا قلت إنّ في الإلهيّ من نور مريم ألف حزمة ضوء تدلّنا على منابع الدّين الصّافي في وحدته ومراميه الّتي تفرش الأرض بكلّ عدالة ومحبّة لا بدّ منها لتصنع السّلام الثّابت المتجذّر في عقيدتنا وإيماننا، بعيداً من جميع أشكال التكاذب السياسي والتكاذب الدّيني الّذي يتجاهل أبسط الشّروط الموضوعيّة لتحقيق السّلام، وذلك من قبل أن تموت الرّوح ويتحطم الميزان.

ولا خيار لنا إلا بتغيير ما علق في نفوسنا من عيوب وشوائب: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11] .

ووسيلتنا إلى ذلك أن نتصالح مع ذاتنا، لنؤكّد أن لا مستقبل يرتجى من مسؤوليّاتنا في حماية الجوهر الأخلاقيّ من الدّين، إلا بردّ الاعتبار إلى قيمة الاصطفاء الّتي اختص الله بها مريم المقدّسة، فنعمل على تطهير مؤسّساتنا الدّينيّة من كلّ نفاق ودنس، وشعارنا في زمن الفتن باسم الدّين، نداء السيّد المسيح(ع): "أخرجوا اللّصوص من الهيكل"، لكي لا تصبح بيوت الله بيوت ضرار أو معابد تفرقة وشقاق، تغذّي أجواء التوتّر السياسيّ وانقساماته، فيما المطلوب منها أن تكون بيوت عبادة وصلاة، تملأ الوطن كلّه بأزاهير المحبّة والودّ والرّحمة، الّتي لا تجعل من الدّين وسيلة لتأليه السّلطة وأربابها: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}[آل عمران: 64] .

أيها الأحبة:

إنّ لبنان الوطن لا يمكن أن يستمرّ من غير وعينا بقيمة المواطنة، ولبنان الدّولة لا يمكن أن يستمرّ من غير وعينا لقيمة الدستور في حياتنا، ولبنان الرّسالة لا يمكن أن يستمر في أجواء القطع والإقصاء الّذي شوّه أعزّ ما يتميّز به لبنان الإسلامي ـ المسيحي من قيم نحن في أمسّ الحاجة إليها لإنقاذ الوطن من محنته وأزماته وحرائقه.

وها هو ذا صوت المسيح المتَّحد بلهفة مريم في آيةٍ واحدة: "بحقّ أقول لكم، إنّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيتٍ إلى بيت، حتّى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأوّل، فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النّار معملاً ".

ونداؤنا باسم الربّ الواحد، أن نبتدئ من تقوى الله في القول والعمل، لنطارح بها كلّ عنفٍ في الفكر والسّلوك، ونداؤنا باسم كلّ الرّسل والأنبياء والأولياء والقدّيسين، أن نبتدئ من الخير والعفو والغفران، لنطرح بها نوازع الشّرّ الّذي يعكّر صفاء بيوتنا في سفاهة هنا وسفاهة هناك.. ونداؤنا باسم البتول مريم وباسم كلّ الأمّهات والعائلات: تعالوا لنكسر قيود الطّائفيّة وعصبيّاتها وأحقادها الّتي كبّلت أرواحنا وعقولنا، فالطائفية ليست ديناً، هي تختزن العشائرية والعصبية، هي غرائزية تستفيد منها السياسات الاستكباريّة الّتي تتغذّى على حرائقنا المشتعلة أبداً  تحت عناوين الدين والدين منها براء.

ويا الله! رحماك بالبشارة الّتي أضعناها يوم أضعنا المعنى بسواد الجهالات التي ظلمت وأظلمت بظلم بعضنا لبعض، فعميت عليها حقيقة الإيمان التي لا يمكن إلا أن يدعو بدعوة الله، تعالوا إلى كلمةٍ سواء، تعالوا إلى قيم الإنسانية التي لا يمكن أن نخرج وطننا من كل آلامه إلا بها.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله    

التاريخ: 14 جمادى الأولى 1434هـ الموافق:26 آذار 2013م

Leave A Reply