الارتباط بالمهدي(عج) انفتاح على خط العدل في الحياة

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}.

اختلف المفسرون في تحديد من هم أولئك الذين وعدهم الله بأنه سوف ينصرهم ويستخلفهم في الأرض ويمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ويبدِّلهم من بعد خوفهم أمناً..

 

هناك من المفسرين من قال: أن المقصود بهم أصحاب رسول الله(ص) الذين رافقوه منذ إعلانه لدعوته في مكة واستمراراً إلى ما بعد هجرته إلى المدينة.. وهؤلاء عاشوا أقصى درجات الترقب والخوف على حياتهم من قريش في قبل الهجرة ومن اليهود والمنافقين ومن ضغوط قريش التي استمرت في المدينة بعدها، حتى كان أحدهم لا ينام إلا وسلاحه إلى جانبه…. فنزلت هذه الآية على رسول الله لتبشر هؤلاء بالاستخلاف والتمكين… وهذا ما حصل فما هي إلا سنوات حتى أنجز الله وعده بالنصر والتأييد…

 

وهناك من المفسرين من بيَّن أن التمكين في هذه الآية لا ينحصر في مرحلة النصر التي شهدها رسول الله(ص)، بل إلى مرحلة أوسع تمكن المسلمون فيها، من خلال الفتوحات التي جعلت المسلمين يتجاوزن حدود الجزيرة العربية، حتى دانت لهم بلاد فارس والروم حتى استقر لهم الأمر.

 

بينما رأى قسم آخر من المفسرين أن هذه الآية تتصل بأهم تحول إنساني سوف يحدث على وجه الأرض، في إشارة إلى المرحلة التي يخرج فيها صاحب الزمان الإمام المهدي(عج) وحين سيقوم هو والمؤمنين معه ليملأ الأرض كل الأرض قسطاً وعدلاً وليتنفس فيها العالم نسائم الإيمان وينتشر في كل ربوعه..

 

 وبين هذه الآراء ، لا يرى الباحث أي تعارض بينها بل تكاملٌ وتناسق، فكل هؤلاء مشمولون.. فالآية هي تعبير ومصداق للسنة الإلهية ولإرادته التي شاءت بأن الأرض يرثها الصالحون و المستضعفون والمقهورون والخائفون والمنبوذون وغيرهم عندما ينقضون على الواقع الفاسد الذي يعيشونه ويسعون إلى التغيير.. وهذا ما أشارت إليه الآيات:

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.

 

ان الوعد الالهي ليس حديث أمنيات وتحققه ليس مشروط بوقت أو بمرحلة أو مع أناس محددين، والدليل أنه قد تحقق في مراحل من الزمن الماضي المختلفة.. تشهد على ذلك ما أشار إليه القرآن عندما قال {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وتشهد على ذلك سيرة الأنبياء وأتباعهم، وتشهد له سيرة المؤمنين المجاهدين، في الانتصارات التي تحققت في الحاضر والتي بإذن الله سوف تتحقق في المستقبل، هو في كل مرحلة تتوفر فيها شروط النصر الإلهي.

 

نعم الوعد الإلهي بالنصر الأتم والأشمل والأكمل فسوف يتحقق مع ظهور الإمام المهدي(عج)…

 

وإضافة إلى الآيات التي أوردناها، والتي تعتبر من القواعد العامة ولم تفصل بوضوح، جاءت الأحاديث عن رسول الله(ص) ومن كل مصادر المسلمين لتبين بوضوح تام الى التجسيد والتوضيح: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جورا وظلماً".

فالأمر هو يتوافق المسلمين.. فالكل يؤمنون بخروج هذا الإمام وتحقيق أهدافه وأنه من نسل رسول الله…

 

 

أيها الأحبة:

إن هذا الأمل هو الذي نجدده في هذه الأيام عندما نستعيد ذكرى ولادة الإمام محمد بن الحسن العسكري.. هذه الولادة التي تمت في الخامس عشر من شهر شعبان.. وهذا الأمل هو الذي بقي حاضراً طوال التاريخ يشد عزم العاملين والمجاهدين ويخفف ألم المتألمين ومعاناة المظلومين والمقهورين.. والذين كانوا يلهجون بذكره في الدعاء المعروف: "اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه".

 

ونحن عندما نتحدث عن الأمل فإننا لا نتحدث عن أمل اليائسين والمنتظرين الحلول من الخارج والقاعدين والحالمين والمخدرين والاتكاليين.. بل أمل العاملين والمجاهدين والعالمين والمجتهدين والصانعين للقوة.. فالله سبحانه عندما يتحدث عن وعده بالنصر والتأييد قرنه بالإيمان والعمل الصالح.. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…}.. وقرنه بالجهاد والتقوى والصلاح {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.. فنصر الله لن يأتي بالمجان ولن يكون ــ كما يحلو للبعض أن ينظِّر ــ من حظ القاعدين المؤمنين بالفكرة، ولكنهم إتكاليون يدعون الله لتعجيل الفرج.. وكأن الإمام سيأتي وبكبسة زر ليغير الواقع ويزيل الفساد والانحراف.

 

ومن هنا بطلان نظرة أولئك الذين يعتقدون أن ظهور الإمام سيحتاج تراكم الفساد والظلم والانحراف ليصل الى مرحلة الانفجار.

لقد وصل البعض للقول أن أفضل وسيلة لتعجيل ظهور الإمام هو ترك الفساد يستشري، ما جعلهم ينظرون إلى المجاهدين والتغيريين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ودعاة الحق والعدل نظرة ريبة، او القول أن كل راية ترفع خلال غياب الإمام هي راية ضلال وانحراف، ولا بد أن تواجه..

 

 

بالمناسبة ولمن شهد منكم البدايات للحركة الاسلامية وللثورة الاسلامية منذ السبعينات يتذكر هنا في بيروت كيف كانت محاولات الاحباط والنيل من عزيمة الحركة الإسلامية بحجة أن هذا لا يريده الامام المهدي بل هو انتقاص لدوره وفهم خاطئ لفكرة الإمام المهدي.. الكثيرون من العلماء والعاملين من دون الحصر وهي مقولة إن أصغي اليها كانت ستؤدي إلى إضعاف الواقع الاسلامي ليكون اليوم على غير ما هو عليه تماماً من نمو ووعي وحيوية وحضور .

 

أيها الأحبة:

إننا نؤمن بأن الإمام المهدي بتسديد من الله­­­ وتأييده عندما يخرج سيقود الحلقة الأخيرة من حلقات الصراع التاريخي والمستمر بين الحق والباطل وبين العدل والظلم وبين الخير والشر.. سوف يأتي ظهوره نتاج كل الجهود التي بذلت وستبذل في هذا الصراع.. لذلك جنوده هم ممتدون عبر الزمن.. ولذلك نقول إننا كما ننتظر الإمام فهو ينتظرنا.. ينتظر جهودنا.. هو يتجلى في كل هذه المسيرة من العاملين والمجاهدين والصالحين..

 

لقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إنّ ظهور المهديّ لا يتحقّق حتّى يشقى من شقي ويسعد من سعد".. أي أن الظهور لن يأتي إلا بعد اختبارات وابتلاءات قاسية يتميز فيها المؤمن العامل عن غيره والصالح عن الفاسد…

لهذا كل منا معني في مرحلته وفي عمره وزمنه بأن يرى نفسه جندياً للحق جندياً للعدل بأن يعزز حضوره كل في ميدانه..

في كل ميادين الحق والعدل.. إننا نحتاج للفاعلين الحقيقيين المقاومين الذين يحدثون تغييرا ويحركون المياه الراكدة ويفتحون مسارات التهوئة في المساحات المختنقة ويبثون الحركة ويفتحون نوافذ في الجدران المغلقة.

 

نحتاج اليوم اكثر من وقت مضى لتجنييد الطاقات والجهود والحضور بفاعلية في ميدان الفكر والثقافة والاعلام وفي الاجتماع والسياسة والاقتصاد.. لقد بات التحدي كبيرا حيث الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه.. حيث صار الباطل قوة متعددة الصور والأشكال.

 

والمشكلة ليست فقط في أن الفساد صار يشهر بالعلن ومن دون وجل أو خجل، بل المشكلة الأخطر هي في غياب ردود الفعل في السكوت في مرور أخبار الفساد والفضائح مرور الكرام.. لا تحرك رأيا عاماً ولا نُخَباً ولا ضميراً.. سكوت مطبق ومخيف.. علينا أن نقف في ذكرى العدل والتغيير وتصويب مسار الإنسانية بعد انحدارها وفقرها وظلامها، لنرفع لواء التغيير وننبذ الجمود وننفض عنا غبار السائد والموروث الذي لا يمت للرسالة بصلة.

 

أيها الأحبة:

إن علاقتنا بالإمام المهدي لن تكون علاقة سليمة إلا إذا استندت الى بعد عقائدي سليم، بإزالة كل الشبهات والممارسات التي شوهت الفكرة والمعتقد.. بحيث نملك القدرة على الإجابة على كل التساؤلات التي تطرح، سواء منها التي تتعلق بولادته أو بعمره الطويل أو بطبيعة الدور الذي يقوم به أو التساؤلات المتصلة بالشخصيات التي سوف تواكب حضوره كالسفياني واليماني وغيرها..

 

إننا نحتاج إلى وعي كل هذه الإشكالات من خلال مصادر نثق بها، حتى لا يخدعنا أحد (كما حصل مع جماعات كثر في التاريخ وانحرفت) كي لا نقع في وهم إدعاءات تشير إلى أن هذا هو اليماني أو ذاك هو السفياني أو أنه المهدي.. وفي هذا المجال إن علينا أن لا نشغل أنفسنا بنقاشات عقيمة ومعطلة، هل هو في هذه المرحلة أو تلك.. ولا تحل مشكلة ولا تقود إلى تغيير واقع فاسد.. إن علينا أن ننقل إيماننا بفكرة الإمام المهدي من نظرية مجردة إلى تطبيق فعلي ويومي.. ليصبح من يؤمن بالإمام المهدي اكثر الناس حركة وتغييرا وعملا واصلاحا وتطوراً وأكثر الناس تنظيما واتقانا واكثر الناس عدلاً وصدحا بالحق.. فإذا خرج هو جاهز وحاضر وإذا لم يخرج يكون قد أدى واجبه ودوره.. وكان جزءاً من هذه المسيرة ومن نتائجها..

 

وسيبقى دعاؤنا الذي هو تعبير عن الآية التي تلوناها:

"اَللّـهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَلِىِّ أَمْرِكَ الْقائِمِ الْمُؤَمَّلِ، وَالْعَدْلِ الْمُنْتَظَر، وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ الْمُقَرَّبينَ، وَأَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يا رَبَّ الْعالَمينَ، اَللّـهُمَّ اجْعَلْهُ الدّاعِيَ إِلى كِتابِكَ، وَالْقائِمَ بِدينِكَ، اِسْتَخْلِفْهُ في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفْتَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دينَهُ الَّذي ارْتَضَيْتَهُ لَهُ، أَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ أَمْناً، يَعْبُدُكَ لا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئاً، اَللّـهُمَّ اَعِزَّهُ وَاَعْزِزْ بِهِ، وَانْصُرْهُ وَانْتَصِرْ بِهِ، وَانْصُرْهُ نَصْراً عَزيزاً، وَاْفتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسيراً، وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً، اَللّـهُمَّ اَظْهِرْ بِهِ دينَكَ، وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ، حَتّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْء مِنَ الْحَقِّ، مَخافَةَ أَحَد مِنَ الْخَلْقِ".

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بقراءة مناجاة أمير المؤمنين(ع)، التي سميت بالمناجاة الشعبانيّة.. بأن نناجي الله بها، لنعبّر من خلالها، كما كان يعبّر الإمام علي(ع)، عن حبنا لله وخشيتنا منه، وحرصنا على الدنوّ منه.. حتى نحظى برحمته في الدنيا والآخرة..

وكان من مناجاته: "إلـهي إِنْ كُنْتُ غَيْرَ مُسْتأْهِل لِرَحْمَتِكَ، فَأَنْتَ أَهْلٌ لأَنْ تَجُودَ عَليَّ بِفَضْلِ سَعَتِكَ، إلـهي لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أيّامَ حَياتي، فَلا تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنّي في مَماتي، إلـهي كَيْفَ آيَسُ مِنْ حُسْنِ نَظَرِكَ لي بَعْدَ مَماتي، وَأَنْتَ لَمْ تُوَلِّني إلا الْجَميلَ في حَياتي".

 

أيّها الأحبّة، إننا أحوج ما نكون وسط ضجيج الحياة من حولنا، والصراع الجاري على الدنيا، والتهافت على السلطة، إلى أن نستعين على نفسنا الأمارة بالسوء، وعلى الشيطان وخدعه ومكره، بهذه النفحات الروحية، التي تصوّر لنا الطريق، وتوضح لنا المسار، وتشعرنا بأن أغلى ما نصل إليه في الحياة هو حبّ الله لنا.. والشعور باحتضانه.. والإحساس بأننا لسنا بعيدين عنه.. والحصول على رضاه..

 

هذا ما نراه في فقرات المناجاة، وهذا ما ينبغي أن نحرص على أن نعيشه في الليلة المباركة؛ ليلة الخامس عشر من شهر شعبان؛ أن نحيي هذه الليلة بما ورد فيها من أدعية وأذكار، وأن لا تفوتنا.. فقد ورد في الحديث: "هي ليلة عظيمة الشرف، هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله العباد فضله، ويغفر لهم بمنّه، فاجتهدوا في القربة إلى الله فيها، فإنها ليلة آلى الله على نفسه ألّا يردّ سائلاً فيها".

 

فلنحرص على أن نستفيد من هذه المواسم الروحيّة.. فهي فرصتنا حتى نخشى موقفنا عند الله، وهي تعيننا في الدنيا على نيل الأمنيات ومواجهة التّحدّيات.

 

تقسيم "سايكس بيكو" والعالم العربي

والبداية مما يجري في العالم من إحياء مئوية "سايكس بيكو"، وهي الاتفاقية السرية التي جرت في العام 1916 بعد الحرب العالمية الأولى، بين ممثلي فرنسا وإنكلترا، لتقاسم النفوذ فيما بينهم على مناطق سيطرة السلطنة العثمانية، بعد هزيمة محورها أمام محور الحلفاء الذي كانت تتصدره فرنسا وإنكلترا، ولترسيم حدود الدول العربية بالصورة التي هي عليها الآن، وقد روعِيَت في هذا التقسيم، كما هو واضح، مصالح الدولتين، وقدرتهما على الهيمنة على هذا العالم العربي الواعد بتاريخه وقدراته البشرية وثروته الطبيعية.

 

لقد شكّلت هذه الاتفاقيّة بداية مرحلة جديدة بدا معها العالم العربي مجموعة كيانات منفصلة متباعدة، وفي بعض الحالات متناحرة، حيث أُسّس لهوية كيانية على حساب الهوية الجامعة العربية أو الإسلامية، ما أضعف قوة هذا العالم وفتّته، وسمح بعد ذلك بعقد "وعد بلفور"، وساهم في وجود الكيان الصهيوني.

 

ونحن اليوم، وعند استذكارنا لما جرى، لا نريد الإيحاء بإلغاء كيانات بُنِيَت وتجذّرت، بقدر ما نريد الإشارة إلى ضرورة تفويت الفرصة على الذين أرادوا من هذه الاتفاقية تفتيت قوة العالم العربي، وذلك من خلال تفعيل مواقع الوحدة لديه، وعدم إضعافها وتهميشها، والمزيد من التماسك في مواجهة قضاياه المشتركة والتحديات التي تواجهه، من العولمة العسكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية. ففي ظلّ سعي العالم الآخر إلى توحيد قدراته وإمكاناته، لا يمكن أن تواجه هذه التكتلات والوحدات، بدول متفرقة أو متناحرة.

 

في الوقت نفسه، لا بدّ من أن لا نفتّت العالم العربي بأيدينا، كما يحصل الآن، وأن لا نسمح للاعبين الجدد بخلق مناخات لاتفاقيات جديدة تساهم في مزيد من التفتيت، بحيث يُترحّم عندها على ما جرى للمنطقة في "سايكس بيكو"، وإن كان لا ينبغي الترحّم عليها، حيث يكثر الحديث الآن عن رسم خرائط جديدة للمنطقة، تُبنى هذه المرة على أساس كيانات طائفية ومذهبية وإثنية، والأسوأ من ذلك، أنه يُراد أن يتمّ ذلك بدمائنا وجراحاتنا وآلامنا، وباستدراجنا إلى صراعات نعتقد من خلالها أننا نخدم ديننا أو مذهبنا أو قوميتنا، فيما نحن نخدم سياسات الآخرين، التي تسعى إلى إضعافنا وإسقاطنا وهزيمتنا.

 

لقد بات حديث التقسيم والفدرلة علنياً. ومع الأسف، بات البعض يسوّق له، ويراه ضرورياً، وينسى أن وراء ذلك مشاريع حرب واستنزافاً مستمراً.. إننا معنيون في هذه المرحلة بالوقوف في وجه كل هذه المشاريع، بحيث يكون قدر الأمة أن تمتِّن وحدتها، لا أن تكون في مهبّ رياح الآخرين، فكما ضاعت فلسطين في "سايكس بيكو"، فقد يُستكمل ضياعها مع ضياع بلدان أخرى.

 

لبنان

ونعود إلى لبنان، الذي يدخل مرحلة جديدة من الانتخابات البلدية، التي نريدها أن تعبّر عن مزاج جديد للبنانيين، وعن رغبة في التغيير تطاول الذين أفسدوا وأساءوا إلى إنسان هذا البلد وصحته ومستقبله في أية انتخابات مقبلة، بحيث يخرج اللبنانيون من النقد والتأفّف إلى صنع القرار، لعل ذلك يساهم في جعل أغلب الطبقة السياسية تعيد النظر في حساباتها، فلا تعمل وفقاً لارتباطاتها أو علاقاتها بهذه الدولة أو تلك، أو بهذا المحور أو ذاك، بل تعمل لحساب من قرّر أن يعاتب ويحاسب ويغيّر، وهذا لا يعني إلغاء دور الخارج وتأثيراته وتعقيداته، ولكننا لا زلنا نعتقد أن الطبقة السياسية لو أرادت، فهي قادرة على اجتراح الحلول وإيجاد المخارج، وهي جاهزة لذلك، ولكن هناك من يصرّ على أن ينتظر انتصاراً هنا أو هناك، يقوّي به موقعه الداخلي، والبعض يريد أن يكون ملكياً أكثر من الملك.

 

إننا ننتظر عقلية جديدة من اللبنانيين، يشعر معها كلّ السياسيين بأنهم لم يعودوا مالكين لمفاتيح طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، بل باتت المفاتيح في أيدي الناس، الّذين قرروا أن لا يعطوها إلا لمن يُحسن الإمساك بها، لا الذين يأخذونهم حيث لا يريدون.

 

وفي هذا الوقت، تبرز أزمة المصارف الّتي باتت تقضّ مضاجع اللبنانيين، نظراً إلى تداعياتها.. ونحن في هذا المجال، وبعيداً عن مشروعيّة هذه الضغوط الماليّة أو عدمها، وفي ظلّ عدم تعريف عالمي واضح للإرهاب… نؤكّد أهمية حفظ هذا القطاع الأساسيّ، ولكن بطريقة لا تسيء إلى فئات واسعة من اللبنانيين.. حيث باتت بعض المصارف تعمل على توسيع دائرة المستهدفين، بحيث تشمل أولئك الذين لا يشملهم القانون الأميركي الّذي ترضخ له..

 

إننا ندعو الدولة اللبنانية، ولا سيّما جمعية المصارف، إلى تحمّل المسؤوليّة في الحفاظ على حقوق اللبنانيين ومصالحهم.. والتعامل مع هذه القرارات بحكمة ودقّة وحرص شديد..

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ: 13شعبان 1437هـ الموافق : 20أيار 2016م

Leave A Reply