صلح الإمام الحسن (ع) :جزءٌ من حركة الرسالة الإسلامية

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى 

 توجه الامام الحسن المجتبى، وهو مسجّى على فراش الموت، وكان ذلك اليوم هو السابع من شهر صفر من السنة الخمسين للهجرة ، والسمّ قد سرى في جسده الشريف، توجه إلى أخيه الحسين يوصيه بالأهل والولد: "أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنني مع جدّي رسول الله(ص)؛ فإنّي أحقّ به وببيته، فإن أبت عليك (أي عائشة)،  فأنشدك بالقرابة الّتي قرب الله (عزّ وجلّ ) منك، والرّحم الماسّة من رسول الله (ص)، أن لا تهرق فيَّ محجمةً من دم".

 وهذا ما كان يمكن أن يحصل، لانه بالفعل  مُنع جثمان الحسن من أن يدفن قرب جده رسول الله.. فلم يصرَّ الامام الحسين على ذلك تفاديا للمواجهة والدم فدفنه عليه السلام عند جدته فاطمة بنت أسد، وهو مكان الدفن المعروف الآن في البقيع. وهذا هو أحد الدروس البارزة في محطات تاريخ الاسلام وتاريخ بيت النبوة، وهو درس لكل المسلمين في عدم استسهال إراقة الدم والتضحية والتنازل من اجل القضايا العامة ومن اجل سلامة الجسد الاسلامي الواحد. لانه كان يمكن للحسن ان يوصي فقط. وهو الذي دس له السم وهو الذي ظلم. ثم إن هذا حقه وهو الامام بتوصيف الرسول، وسيد شباب اهل الجنة، ومن الطبيعي ان يعبر عن الحب بان يجاور جسد جده، وفي ذلك لرسول الله رضا الذي طالما أحب حسنا وأشهر هذا الحب في أكثر من مناسبة وعلى مسامع المسلمين.

 ومع ذلك ينفّذ الامام الحسين الوصية ولا يرضى ان يثير اي مشكلة، والا لكان قد أدى ذلك الى ما لا يحمد عقباه.

أيها الأحبة،

إن الحديث عن الإمام الحسن يطول، عن حياته مع رسول الله (ص) ومع أمه الزهراء (ع) وأبيه علي (ع). وعن الأدوار التي قام بها في كل هذه المراحل. وعن سجاياه وأخلاقه وصدقاته وحلمه وهيبته.

ولكننا سنتوقف عند الدور الذي قام به بعد استشهاد أبيه، وتسلمه مقاليد الخلافة، والظروف التي جعلته يعقد الصلح مع معاوية آنذاك، فيما معاوية قد فعل ما فعل منذ أن قام على الامام علي، ومنذ ان تمرد وبغى واستأثر بالشام، وبدأ يؤسس لمنهج واسلوب هجين للحكم في دنيا المسلمين.. ودور الامام الحسن  يفتح الباب أمام استعادة السؤال: لماذا صالح الإمام الحسن معاوية؟ 

بعد أن بويع الإمام الحسن(ع) خليفة للمسلمين رفض معاوية هذه البيعة، ولم يكتف بذلك، بل أرسل جيشاً كبيراً، وقوامه ستون ألفا، ليفرض رأيه بعدم البيعة للحسن، وأن تكون الخلافة له. حاول الإمام الحسن(ع) بحواريته المعهودة أن يقنع معاوية بالعدول عن قراره حفظاً لوحدة المسلمين وقوتهم، وتنفيذاً لقول رسول الله "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، لكن معاوية لم يستجب لذلك وأصرّ على رأيه حتى لو أدى ذلك إلى القتال.

أمام هذا الإصرار استنفر الإمام الحسن(ع) أصحابه، وأرسل جيشاً يرد به تحدي معاوية، وكادت المعركة أن تحصل، لكن الإمام(ع) وبنظره الثاقب لوضع المسلمين الداخلي من جهة والتحديات الخارجية التي تحيط بهم من جهة أخرى، وبحكمته كإمام حريص على مستقبل المسلمين ومصلحتهم ولو كان ذلك على حسابه، لم يشأ الاستمرار، بل أعلن رغبته بالصلح. بعد أن رأى أن المعركة غير محسومة على مستوى نتائجها العسكرية، لا سيما أن معاوية استغل بعض ضعاف النفوس في جيش الإمام واشتراهم بالمال. وفي الوقت نفسه كانت عين الإمام على التحدي الخارجي من الروم الذين كانوا ينتظرون أي فرصة ضعف للانقضاض على كل الواقع الإسلامي.

لكن الإمام الحسن(ع) لم يرده صلح الضعفاء، ولا صلحاً يؤدي إلى إعطاء الشرعية الكاملة لمعاوية، أو الشرعية لمن قد يخلف معاوية، بل أراد للشرعية أن تعود إلى موقعها الصحيح، الذي نص عليه رسول الله. ولذلك كان الصلح عنده محسوباً.

وهذا ما أشارت إليه بنود الصلح:

أولاً: أن يسلم الأمر إلى معاوية، لكن على أن يعمل بكتاب اللّه وسنّة رسوله(ص)، وبسيرة الخلفاء الصالحين.

ثانياً: أن يعترف معاوية بأن الخلافة ستكون لأهل بيت رسول الله من بعده.. بحيث تكون للحسن(ع)، فإن حدث حادث للحسن فلأخيه الحسين وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده.

ثالثاً: أن يترك سبَّ أمير المؤمنين، وهو السنَّة التي سنّها معاوية في الشام، وأن لا يذكر علياً إلا بخير.

رابعاً: أن يأمن أصحاب علي(ع) والإمام الحسن(ع) وكل من يلتزم بخط أهل البيت(ع)، فلا يلاحقهم أحد بسوء، وأن تحفظ كل حقوقهم.. كما أشترط الإمام الحسن(ع) أن لا يُسمّى معاوية بأمير المؤمنين..

كان الإمام الحسن(ع) واعياً جداً لما قد يقدم عليه معاوية، وعدم تنفيذ بنود الصلح هذه. لكنه كان يرى أن فترة الصلح سوف تكون كفيلة بكشف حقيقة معاوية وبفضح مخططه ومخطط الحكم الأموي. وقد أكدت الوقائع صحة رؤية الإمام، فسرعان ما انكشفت الصورة الحقيقية لمعاوية، ليس فقط استناداً إلى ممارساته بل إلى مواقف أطلقها معاوية نفسه، فهو قبل أن يغادر أرض العراق وقف خطيباً أمام أهلها قائلاً: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.. ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشي‏ء منها.

كل الممارسات التي قام بها معاوية، بدءاً بعمليات القتل التي استهدفت أصحاب أمير المؤمنين، وعلى رأسهم حجر بن عدي الكندي، مروراً بمواصلة سبّ أمير المؤمنين من على منابر المساجد في الشام، وصولاً إلى دس السم للإمام الحسن(ع) ثم تنصيب يزيد الفاسق الفاجر حاكماً على المسلمين، كل هذه الممارسات كانت كفيلة بفضح الحكم الأموي الذي بدا بشكل واضح أن لا غاية له إلا ضرب الإسلام وتدميره، ثمّ السيطرة والبطش، كل هذا أسس لثورة الحسين(ع).

 

أيها الأحبة:

ليس الصلح في الإسلام مبدأً غريباً عنه، إنما هو جزءٌ من حركة الرسالة الإسلامية. بل هو القاعدة فيها، فيما الحرب هي الاستثناء، والله يقول (والصلحُ خير)، فكما شهدنا في حركة رسول الله معارك بدر وأحد وخيبر والأحزاب، شهدنا أيضاً صلح الحديبية. وكما حقق رسول الله من خلال الحرب أهدافه بإسقاطه لعنفوان قريش واستكبارها، استطاع من خلال صلحه في الحديبية أن يحقق هدفه الكبير في فتح مكة، وتحقيق النصر المؤزر بدخولها وإعادتها إلى التوحيد.

والأمر نفسه قد تكرر عند الإمام الحسن(ع)، وهو قابلٌ أن يتكرر في عصرنا، المهم ألا ينطلق الصلح من ضعف وهزيمة أو حبّ للدعة والاسترخاء، وكرهاً للقتال، لأنه بذلك يكون استسلاماً، بل أن يكون محسوباً بحسابات الرسالة والمصلحة العامة، بحيث يوصل للهدف، أو أن يكون طريقاً للوصول إليه، دون أن يكون على حساب المبادئ والقيم ومستقبل الرسالة، أو على حساب مصالح  المسلمين والمستضعفين.

 

أيها الأحبة،

في ذكرى الإمام الحسن(ع) لنتوجّه بقلوبنا إلى هذا الإمام الذي ظلمه البعض حتى من أقرب أصحابه، ولم يعرفوه إلا بعد أن افتقدوه. وهذه سيرة كل الذين يحرصون ويتطلعون إلى البعيد مكرسين حياتهم لحفظ الدين وحماية مصالح المسلمين.

السلام عليك يا أبا محمد الحسن بن علي. أشهد أنك أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وصبرت في ذات الله حتى أتاك اليقين. فجزاك عن أمتك خيراً كثيراً.

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي مفتاح النجاح في الدنيا والآخرة، كما وعد الله سبحانه وتعالى. ولبلوغ التقوى، علينا أن نصغي إلى هذا الحديث المروي عن الإمام الحسن(ع)، حين سئل: "إلى أيّ شيء نراك لا تردّ سائلاً أو محتاجاً، وإن كنت على فاقة؟". فقال(ع): "إنّي لله سائل وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأرد سائلاً، وإنّ الله عوّدني عادة أن يفيض نعمه عليَّ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى أن قطعت العادة  ـ في خدمة الناس ومساعدتهم ـ أن يمنعني عادته ـ في إغداق نعمه عليَّ".

أيها الأحبة، إنَّ مقياس محبّتنا لله يتمظهر في مدى حبّنا للناس، وخدمتنا لهم، والتخفيف من آلامهم ومعاناتهم، لتكون حياتهم أفضل بوجودنا معهم، لا أن نكون مشكلة لهم، كبعض الناس الذين يشكل وجودهم مشكلة لمجتمعاتهم. ونحن هنا لا نفرق في ذلك بين من ينتمي إلى ديننا وطائفتنا ومذهبنا ومن لا ينتمي إليهم، فعلينا أن نعطي كما يعطي الله، من دون أن نفرق بين عباده في العطاء، فالخلق كلهم، باختلاف بمذاهبهم وطوائفهم ومواقعهم السياسية، عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، ومن أدخل على أهل بيته سروراً.

أيها الأحبة، بهذه الروح نبني مجتمعاً متماسكاً قوياً؛ مجتمعاً قادراً على أن يواجه الصعوبات والتحديات، وما أكثرها في بلداننا ومناطقنا!

ونبدأ من لبنان، الذي كشفت العاصفة التي تضربه، مقدار ما تعانيه أجهزة الدولة من ترهل، وفساد، وإهمال، وسوء تخطيط، واستهتار في حماية الناس ووقايتهم من الأضرار، أو تلبية حاجاتهم ومتطلباتهم. وقد تجلى ذلك بكل وضوح في الاتهامات المتبادلة التي استمع إليها اللبنانيون على الهواء، والتي صدرت من مواقع في الدولة، كان من المفترض بها أن تتعاون لمواجهة أمر كان من المتوقع حصوله، وقد حصل مثله في السنة الماضية وما قبلها، لمنع تداعياته على الناس، فلا يتركون لمصيرهم، ولا يبحثون عن طريقة لمعالجة مشاكلهم بأنفسهم، من دون أن يشعروا بأن ثمة دولة تقف معهم.

إن كل هذا الواقع بات يدعو إلى ضرورة الإسراع بتأليف حكومة فاعلة؛ حكومة تعمل لأجل مواطنيها، بعيداً عن كل الحسابات التي أدمناها في هذا الوطن، حكومة تعمل على توفير كل ما تحتاجه الوزارات والبلديات لتمارس دورها ومسؤوليتها. كما بات يدعو إلى محاسبة كل المسؤولين المقصرين، بعيداً عن الاعتبارات الطائفية والمذهبية والسياسية التي باتت مع الأسف غطاء لكل مسؤول مقصر، لتكون محاسبة كل مسؤول لم يقم بمسؤولياته، أساساً لإصلاح الواقع السياسي والإداري والمالي، وليؤسس لمرحلة جديدة في هذا البلد، عنوانها المحاسبة وتحمّل المسؤوليات.

 

وفي الوقت نفسه، ندعو الحكومة التي تعيش في هذه الأيام همّ توفير مبالغ مالية من أجل بعض الملفات التي تعتبر موضع جدل واختلاف، بعيداً عن موقفنا منها، أن تهتم بأمور اللبنانيين وتساعدهم على مواجهة البرد القارس، ولو الحد الأدنى، من خلال دعم المازوت، أو أية وسائل أخرى تكون كفيلة بالتخفيف عنهم.

ونحن في هذا البلد الذي تعوَّدنا فيه كشعب أن نقلع أشواكنا دائماً بأظافرنا، مدعوون أكثر من أي وقت مضى إلى التكافل والتعاون مع الطبقات الفقيرة والمستضعفة، لمساعدتها على تجاوز هذه المرحلة والمراحل اللاحقة، ولا سيما في البقاع وعكار وغيرهما.

وهنا لا بد من أن نلتفت بكل عناية إلى من ينبغي أن نعتبرهم ضيوفاً، ولهم حق الضيافة علينا، وهم الذين لجأوا إلينا هرباً من جحيم الحرب الدائرة في سوريا، فعلى اللبنانيين أن يقوموا برد قدر الجميل الذي قدموه لهم أثناء استضافتهم واحتضانهم لهم خلال عدوان العام 2006، وأن يقفوا معهم ويساعدوهم ما أمكن، لأن في ذلك مسؤولية تقع على عاتقهم؛ مسؤولية مبادلة الإحسان بالإحسان، ومسؤولية تجاههم لأنهم مسلمون وعرب وجيران.

إنه لمن المعيب على كل مسلم، أن يسمع أنه هناك أطفالاً يموتون برداً ولا يتحرك، في الوقت الذي تصرف الدول العربية والإسلامية مئات الملايين على السلاح الذي يقتل، ولا تصرف مثلها أو أقل منها على المساعدات الإنسانية للنازحين، الذين باتوا ينتظرون مساعدات دولية تحفظ حياتهم وتحمي أعراضهم، وكأن لا عرب ولا مسلمين سمعوا بقول رسول الله: "ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع… ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".

إن هذه المعاناة ينبغي أن تستدعي تضافر الجهود وتعاون الجميع، فمسؤوليتنا لا تنحصر برعاية أولادنا وحفظ بيوتنا، بل تمتد إلى كل مكان نسمع فيه أو نرى فيه إنساناً يتعذب ويتألم.

وهنا، لا بد من أن ننوّه بالمبادرات التي تقوم بها بعض المؤسسات في هذا المجال، رغم أنها تبقى مبادرات محدودة، ولا تستطيع حل المشكلة كلها، ولذلك، لا بد من رفدها بمبادرات أخرى، ومسؤوليتنا كبيرة في هذا المجال.

ولا بد لنا أيضاً وفي أجواء القمة الخليجية، من تأكيد أهمية فتح باب في الحوار بينها وبين الجمهورية الإسلامية في إيران، لأننا نرى أن تفعيل هذا الحوار، سوف يساهم في حل الكثير من المشاكل التي تعانيها المنطقة، وسيعيد الأمور إلى نصابها في العلاقات بين الدول الإسلامية والشعوب العربية والإسلامية، وخصوصاً في منطقة الخليج.

وفي ظل تصاعد وتيرة العنف الدامي، الذي يستهدف البشر والحجر، والذي نشهده في أكثر من بلد عربي وإسلامي، نثمن كل الفتاوى التي تحرم هذه الأعمال، ولا سيما الانتحارية منها، والتي نأمل أن نجد لها آذاناً صاغية.

وأخيراً، ونحن على أبواب الأعياد المجيدة، نجدد الدعوة للإفراج عن المطرانين المخطوفين في سوريا، اليازجي وإبراهيم، والراهبات المختطفات في معلولا، وكل المخطوفين، ليعودوا إلى أهلهم وذويهم ومواقع عملهم سالمين وفي منأى عن كل أذى واستغلال.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 10 صفر 1435هـ  الموافق :13  كانون الاول 2013م

 

 

 

Leave A Reply