كيف ننقذُ مصيرَنا يومَ القيامةِ؟!

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}[مريم: 93 – 96]. صدق الله العظيم.

حرص القرآن الكريم في العديد من آياته على أن يركز في وعي الإنسان حقيقة لا ينبغي أن تغيب عنه أو أن يغفل عنها، وهي أنّ الصورة التي هو عليها في الحياة الدنيا لن تكون يوم القيامة، ففي الدنيا يستعين الإنسان ويتقوَّى بموقعه وأمواله وعقاراته، وبعائلته وعشيرته، وبالجهة التي ينتمي إليها، وبأبناء طائفته أو مذهبه… أما يوم القيامة، فلن يكون كل ذلك، فهو هناك سيقف بين يدي ربّه فرداً وحيداً متجرداً من كلّ الصفات والقدرات والإمكانات، وحتى من كان له كدّه وسعيه، ليسأل في هذا اليوم عن كلّ ما جرى منه، ولن يغني عنه هناك سوى عمله وما قدَّم…

وإلى هذه الحقيقة، أشار الله سبحانه وتعالى في الآية التي تلوناها: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}، وقوله عزّ وجلّ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}[الإسراء: 13 – 14]، وقوله سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النَّحل: 111].

ولتأكيد هذه الفكرة، ولتتضح هذه الصورة لدى الإنسان أكثر، نقل لنا الله سبحانه وتعالى مشاهد سنراها في يوم القيامة.

يومَ القيامةِ: النّاسُ فرادى

المشهد الأوّل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ…}[الأنعام: 94]، فقد كانت الآية هنا واضحة في الإشارة إلى أنّ الإنسان لن يأتي يوم القيامة ومعه أمواله ولا عقاراته ولا مواقعه، ولهذا عندما يقف ويقول: مالي مالي.. سيقال له: وهل لك يا بن آدم من مالك إلَّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت؟! ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه لورثتك. وفي ذلك قوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آَخَرِينَ}[الدخان: 25 – 28].

الفرارُ من العائلة

المشهد الثاني من مشاهد يوم القيامة، هو قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}[عبس: 33 – 41].

حيث أشارت هذه الآية إلى أنّ المرء ستفرّ منه في يوم القيامة عائلته التي لطالما عمل لأجلها، وأفنى حياته ليوفّر لها حاجاتها ومتطلباتها، وقد ورد في ذلك أنّ الرجل هناك يلقى زوجته فيقول لها: يا هذه، أيّ بعل كنت لك؟ فتقول: "نِعْمَ البعل كنت"، وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: "فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلّي أنجو مما ترين"، فتقول له: ما أيسر ما طلبت! ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً، فأنا أتخوف من مثل الذي تخاف. وكذلك فإنّ الرجل يلقى ابنه، فيتعلق به فيقول: "يا بنيّ، أي والد كنت لك؟"، فيثني بخير، فيقول له: "يا بنيّ: إني احتجت إلى مثقال ذرّة من حسناتك لعلّي أنجو بها مما ترى"، فيقول ولده: "يا أبت، ما أيسر ما طلبت! ولكني أتخوَّف من مثل الذي تتخوّف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً".

وهذا ما نقرأه في الدّعاء: "واِرْحَمْنِي يَوْمَ آتِيكَ فَرْداً شَاخِصاً إِلَيْكَ بَصَرِي، مُقَلَّداً عَمَلِي، قَدْ تَبَرَّأَ جَمِيعُ الْخَلْقِ مِنِّي، نَعَمْ وَأَبِي وَأُمِّي، وَمَنْ كَانَ لَهُ كَدِّي وَسَعْيِي".

التبرّؤ من الأتباع

ومشهد ثالث: يظهر فيه الله سبحانه وتعالى، ماذا سيفعل الّذين اتُّبعوا من الناس الذين اتّبعوهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار}[البقرة: 166- 167].

الموقفُ من المستكبرين

وفي مشهد رابع، يصوّر لنا القرآن ماذا سيقول الناس الذين كانوا يطيعون الزعماء والمواقع العليا على حساب ما أمرهم الله به ونهاهم عنه، عندما يقفون بين يديه: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}[الأحزاب: 67 – 68].

وفي مشهد خامس، يصوّر لنا القرآن الكريم ماذا يقول الضعفاء للمستكبرين الّذين خضعوا لإرادتهم، ولأجل ذلك باعوا قيمهم وعزتهم وكرامتهم، وبماذا سيجيبونهم: {وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}[إبراهيم: 21].

السَّالكون في سقر

وفي مشهد سادس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدّثر: 38 – 45].

فقد أشارت هذه الآية إلى السبب الذي أوصل هؤلاء إلى سقر، والتي هي واد سحيق من جهنّم، والتي أشار الله سبحانه إلى شدّتها في آية أخرى، عندما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}[المدثر: 27 – 29]، ويعود ذلك إلى خضوعهم للجوّ السائد، حيث كانوا يؤيدون من يؤيده الناس، ويرفضون من يرفضونه، ويأخذون بما هم عليه حتى لو كان على حساب الله ورضوانه… وهو ما نهى عنه رسول الله (ص) عندما قال للناس: "لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلم الناس ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا لم تظلموا".

كيفَ ننقذُ مصيرَنا؟!

لهذا، أيُّها الأحبّة: نحن مدعوّون إلى أن نكون واعين لأنفسنا، أن لا تكون مواقعنا في الحياة صدى نردّد ما كان عليه آباؤنا وأولادنا وأزواجنا وزوجاتنا أو عائلاتنا أو عشائرنا أو من ننتمي إليهم، أو أسيرة لمصالحنا وأهوائنا، بل أن تكون منسجمة مع حقيقة واحدة ينبغي أن تكون دائماً حاضرة في كلّ لحظة، وأن تكون بوصلتنا في كلّ موقف، وهي الخضوع لإرادة الله الذي منه نستمدّ الخير، وهو لا يدعونا إلّا إلى الخير، وأن ندرك أنّ كلّ الذين قد نبيع قيمنا وديننا وعزّتنا وكرامتنا لأجلهم، سيتركوننا لمصيرنا عندما نقف بين يدي ربنا، ولن يغنوا عنا من الله شيئاً.

وليكن قولنا دائماً: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام: 79]، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ…}[الأنعام: 62]، وأن يكون طلبنا من الله: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء: 87 – 89].

ولنستحضر في ذلك الدعاء الوارد عن الإمام زين العابدين (ع): "وَانْقُلْنِي إِلى دَرّجَةِ التَوْبَةِ إِلَيْكَ، وَأَعِنِّي بِالبُكاءِ عَلى نَفْسِي، فَقَدْ أَفْنَيْتُ بِالتَّسْوِيفِ وَالآمالِ عُمْرِي، وَقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الآيِسِينَ مِنْ خَيْرِي، فَمَنْ يَكُونُ أَسْوَءَ حالاً مِنِّي إِنْ أَنا نُقِلْتُ عَلى مِثْلِ حالِي إِلى قَبْرِي، لَمْ أُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتِي وَلَمْ أَفْرُشْهُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ لِضَجْعَتِي… فَما لي لا أَبْكِي؟! أَبْكِي لِخُرُوجِ نَفْسِي، أَبْكِي لِظُلْمَةِ قَبْرِي، أَبْكِي لِضِيقِ لَحْدِي، أَبْكِي لِسُؤالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ إِيايَ، أَبْكِي لِخُرُوجِي مِنْ قَبْرِي عُرْياناً ذَلِيلاً حامِلاً ثِقْلِي عَلى ظَهْرِي، أَنْظُرُ مَرَّةً عَنْ يَمِينِي وَأُخْرى عَنْ شَمالِي، إِذِ الخَلائِقُ فِي شَأْنٍ غَيْرِ شَأْنِي، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ"…

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نستعيد في هذه الأيّام ما جرى للمسلمين بعد معركة أُحد، حيث تذكر السّيرة أنَّ أبا سفيان، وبعدما غادر أُحد عائداً إلى مكَّة منتصراً، ندم على تسرّعه، وقرَّر، وقبل أن يصل إلى مكَّة، العودة إلى المدينة للانقضاض على المسلمين فيها، مستفيداً من ضعف معنويّاتهم والجراحات التي ألمّت بهم.

يومها، عرف رسول الله (ص) والمسلمون بقرار أبي سفيان، وخرجوا جميعاً لملاقاته والتصدّي لجيشه ومن معه، وخرج معهم الجرحى متثاقلين على جراحهم، فلمَّا علم أبو سفيان بعزيمة المسلمين وتصميمهم على نصرة دينهم، قرَّر العدول عن رأيه والمضيّ عائداً إلى المدينة.

وقد سجَّل القرآن الكريم هذا العنفوان الَّذي كان المسلمون يعيشونه لثقتهم بالله وتوكّلهم عليه، فقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}. لم تشِر هذه الآيات إلى حادثةٍ منفردةٍ حصلت في التّاريخ، بل إلى حادثةٍ هي حاضرة في مفاصل عديدة في التّاريخ، وستكون حاضرةً دوماً في مواجهة كلّ التحدّيات الّتي هي ليست بعيدة منا.

ما بعدَ الانتخابات

والبداية من لبنان، حيث استطاع اللبنانيون إنجاز الاستحقاق الانتخابي من دون أيّ حوادث تذكر، رغم الشحن الطائفي والمذهبي والسياسي الذي شاب الخطاب الانتخابي، وتبادل الاتهامات، والتي وصلت إلى حدّ التخوين، والّذي كنا حذّرنا منه ومن تداعياته.

وهنا نقدّر عالياً للّبنانيين قدرتهم على تجاوز كلّ هذا التوتر، والتعبير بأصواتهم عن خياراتهم وعما يتطلعون إليه، والذي ظهر جلياً فيما أفرزته صناديق الاقتراع.

أما وقد أنجز هذا الاستحقاق، وبالصّورة التي حصلت، فإننا ندعو اللبنانيين إلى إزالة أيّ تداعيات قد يكون أنتجها الخطاب الانتخابي الّذي اعتمد، مع الأسف، إثارة المخاوف والهواجس بين اللبنانيّين، إلى الحدِّ الذي أظهر أن لا قواسم مشتركة في ما بينهم، وأن لا أمل بعودتهم إلى التلاقي، حتى لا تترك آثارها على الوحدة الداخليّة التي هم أحوج ما يكونون إليها في هذه المرحلة وفي كلّ المراحل.

وهنا، لا بدّ من أن ننوّه بكلّ الأصوات والمواقف التي سمعناها بعد الانتخابات، والتي طالبت بالكفّ عن الخطاب التحريضي، والدّعوة إلى إيقاف الممارسات الاستفزازية التي ظهرت خلال الاحتفاء بنصر هذا الفريق وذاك.

ونحن هنا نؤكّد ما كنّا قلناه سابقاً، ولأكثر من مرة، بضرورة إبعاد العنوان الديني أو المذهبي عن أن يكون أداةً للتجييش أو للاستفزاز أو للانقسام وإثارة الأحقاد، فالأديان السماويّة لم تأت لنسف الجسور بين النّاس، بل لمدّها فيما بينهم، وتعميق اللقاء على القواسم المشتركة، وأن تحكم العلاقة فيما بينهم الأخوّة الإيمانية والمشاعر الإنسانيّة، والتي أشار إليها أمير المؤمنين (ع) في عهده لواليه مالك الأشتر الّذي ولّاه مصر، حين قال له: "اِعلم أنّ الناس صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ".

العملُ لتنفيذِ الوعود

ونحن في الوقت نفسه، ندعو أعضاء المجلس النيابي الجديد إلى أن يكونوا على مستوى آمال من منحوهم أصواتهم وأودعوهم ثقتهم، بأن يكونوا تعبيراً صادقاً عن معاناتهم وآمالهم وطموحاتهم، إن على صعيد الاستحقاقات التي تداهمهم، أو على صعيد التشريعات المنتظرة منهم، أو في دورهم الرقابي، وأن يفوا بكلّ الوعود التي وعدوا بها، أن لا يروها وعوداً انتخابية تنتهي بانتهاء الانتخابات، كما اعتدنا، بل عليهم أن يروها واجباً شرعياً وأخلاقياً، لأن توكيلهم كان مشروطاً بها، وهو لن يبقى مستمراً إن لم يفوا بوعودهم ولم يقوموا بالدَّور المطلوب منهم.

إنَّ أمام المجلس النيابي الكثير مما عليه القيام به في هذه المرحلة الصّعبة التي يمرّ بها البلد وإنسانه، فليس الوقت وقت تسجيل نقاط أو وقت مناكفات وصراعات أو إثارة عناوين خلافيّة، أو طرح قضايا ليس الآن وقت طرحها، حتى لا يجري نقل الصراع الذي شهدناه طوال المرحلة السابقة إلى داخل المجلس النيابي الجديد.

إنَّ المرحلة هي مرحلة إنقاذ بلدٍ يتداعى، فمن حمل عنوان التّغيير أو وعد به، عليه أن يثبت ذلك، وهو لن يتحقَّق إلّا بمدّ يد التعاون إلى الآخرين، حيث لا مجال لإخراج البلد من أزماته أو إصلاح ما فسد فيه بيد واحدة، بل بتكاتف الأيدي وتعاونها.

إننا نريد للتنوّع الذي نشهده في المجلس النيابي الجديد أن يساهم في خلق الحيوية المطلوبة للإنجاز والتنافس عليه، وأن لا يقع في فخّ الاصطفافات الحادّة التي لم تفلح في تحقيق أهدافها سابقاً، وهي لن تفلح الآن.

إن اللبنانيين لن يقبلوا مجدّداً بالعذر الّذي لطالما استمعنا إليه من القوى السياسية الممثّلة في المجلس النيابي والحكومة، لتبرير تقصيرهم أو عدم القيام بما عليهم من مسؤوليّات، بأن الآخرين لم يدعونا نقوم بأداء دورنا، فمن الآن، من لا يستطيع العمل والإنجاز، عليه أن يعيد الوكالة إلى الشّعب الذي منحه إيّاها، حتى لا يلدغ البلد وإنسانه من جحورهم مرّة أخرى.

معالجةُ الأزمات

في هذا الوقت، وإلى أن يبدأ المجلس النّيابي بالعمل، نأمل من الحكومة الّتي ستتولى تصريف الأعمال في المرحلة القادمة عدم الانكفاء، والقيام بالدّور المطلوب منها في معالجة الأزمات السّاخنة التي بدأت تلوح مجدَّداً، مما نراه الآن على صعيد المحروقات أو الدواء أو الكهرباء أو الخبز والكثير الكثير من ذلك، وأن تُبذل كلّ الجهود على هذا الصعيد، وندعو هنا أن تُسهّل لها الطرق القانونية لتتابع هذا الدّور إلى حين تأليف حكومة جديدة، والتي نخشى أن يطول تأليفها.

ماذا يخطِّط العدوّ؟!

وإلى فلسطين المحتلّة التي يواصل العدوّ فيها ممارساته العدوانيّة بحقّ الشعب الفلسطينيّ، لإخضاعه ونزع هويته وطمس معالمها، وإجهاض انتفاضته التي نشهدها اليوم في جنين والقدس.

ونحن في الوقت نفسه، ندعو إلى التنبه إلى ما يخطّط له العدوّ على مستوى المنطقة كلّها، وهو ما ظهر في مناوراته المستمرة، والتي يحاكي فيها ضرب أهداف في لبنان أو إيران وغيرهما، والتي وإن كنا نراها تأخذ طابع التهويل أو الترهيب، فإنّنا نخشى أن تكون مقدّمة لعدوان فعليّ جديد ندعو إلى الحذر منه، والاستعداد لأكثر السيناريوهات خطورة، ولا يكون ذلك إلا بتعزيز الوحدة الداخليّة، والابتعاد عن كلّ أشكال الشّرذمة والانقسامات السياسية وغيرها.