مواقفُ وعِبَرٌ من حياةِ السيِّدِ المسيحِ (ع)

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}. صدق الله العظيم.

الإيمانُ بالمسيحِ (ع)

في الخامس والعشرين من شهر كانون الأوَّل، سنكون مع ذكرى السيِّد المسيح (ع)، هذا النَّبيّ هو واحد من أنبياء الله العظام الَّذين أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نعلن إيماننا بما جاؤوا به، عندما قال: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

وقد أشار رسول الله (ص) إلى موقعه منهم، عندما قال: “إنَّ مَثَلي ومثلَ الأنبياء منْ قَبلي، كَمَثَلِ رجلٍ بنى بَيْتاً، فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضعَ لَبِنَةٍ من زاوية، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفونَ بِهِ، ويَعْجَبونَ له، ويقُولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنَة؟! قال: فأنا اللَّبِنَة، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ”.

وقد عبَّر عن ذلك في حديث له: “إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”.

وهذا يشير بشكلٍ واضحٍ إلى أنَّ الإسلام الَّذي نؤمن به، يدعونا إلى الإيمان بكلِّ الأنبياء، وأن لا نفرِّق بينهم، وأنَّ الإسلام يحتضن في داخله كلَّ الرسالات السماويَّة، فهو لم يأت ليلغي أياً من هذه الديانات، بل جاء لينفض أيَّ غبار عنها ولتكتمل به.

تكريمُ اللهِ للمسيحِ (ع)

وقد حظي السيِّد المسيح (ع)، ومنذ وجد على هذه الأرض، بتكريم الله له، بأن كانت ولادته معجزة ومظهراً من مظاهر قدرة الله عزَّ وجلّ، عندما ولد من دون أب، وبما اختصَّه الله من نِعم جليلة، أشار إليها الله عزَّ وجلَّ في كلامه له: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ}.

وعندما حمَّله الله المسؤوليَّة في حمل رسالة الله وإيصالها إلى النَّاس والتَّبشير برسالة رسول الله (ص)، والَّتي أشار إليها القرآن الكريم على لسانه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}.

وعندما قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.

لذلك، أيّها الأحبَّة، من الطبيعي أن نحتفي بذكرى ولادة السيِّد المسيح (ع)، ولكن بالصّورة التي نؤمن بها بأنَّه عبد الله ونبيّ من أنبيائه، وليس أنّه إله، ولا أنّه يملك أيّ صفة من صفات الألوهيَّة، وأن تكون مناسبةً لنعبِّر بها عن القيم التي دعا إليها؛ قيم المحبَّة والتَّسامح والعدل والوقوف في وجه الظّلم، والتي لأجلها عانى وتحمَّل، حتَّى كاد أن يصلب لولا حماية الله له بأن رفعه إليه.

مواقفُ ودروسٌ

ونحن اليوم، وانطلاقاً من ذلك، سنستفيد من هذه المناسبة الكريمة، لنشير إلى بعض ما ورد في سيرته ومواقفه، لتكون عبراً لنا ودروساً لحياتنا.

الموقف الأوَّل: حصل عندما اجتمع كثر من النَّاس وهم في حال من الغضب والشَّماتة، ليرجموا امرأةً اتُّهِمَت بالزّنا، فقبل البدء بتنفيذ الحكم، وقف السيِّد المسيح آنذاك بين الجموع، محدِّداً شرطاً للَّذين يريدون أن يشاركوا في رجم هذه المرأة، فقال: “من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر”.

لقد أراد السيِّد المسيح (ع) بذلك أن يعلّم النَّاس درساً، أنَّ الذي يريد أن يدين الآخرين، لا بدَّ من أن لا يكون مداناً، وأنَّ عليه أن يدين نفسه قبل أن يدين الآخرين، وأن ينظر إلى عيوب نفسه قبل أن ينظر إلى عيوب غيره، وأن لا يرمي النَّاس بالتقصير قبل أن يدقِّق في تقصيره.

وكما قال رسول الله (ص): “كفى بالمرء عيباً، أن ينظر من النَّاس إلى ما يعمى عنه من نفسه، ويعيّر النَّاس بما لا يستطيع تركه”.

وموقف آخر له، عندما مرَّ يوماً مع بعض حواريّيه بجيفة كلب، فأمسك الحواريّون أنوفهم وقالوا: ما أشدّ نتن رائحة هذه الجيفة! فقال السيِّد المسيح (ع): “ما أشدّ بياض أسنانها!”.

فقد أراد (ع) لحواريّيه أن لا يتسرّعوا وينظروا فقط إلى سلبيَّات الآخرين، بل أن يأخذوا في الاعتبار الجانب المضيء منهم، وأن لا ينسوا الإيجابيَّات بفعل وجود السلبيَّات، وأن يكونوا منصفين في تقييمهم للأشخاص، حتَّى لو كانوا أعداءهم واختلفوا معهم بأيِّ اختلاف، وهذا لا يعني عدم النظر في السلبيّات، لكن بعد التبصّر في الإيجابيّات.

وموقف ثالث، عندما مرَّ يوماً بقبر يعذَّب صاحبه، ثم مرَّ به في السنة التّالية، فإذا قد رُفِع العذاب عنه، فسأل الله: رفعت العذاب عنه وهو يستحقّه؟! فأوحى إليه: يا روح الله؛ لهذا الرَّجل ولد صالح أصلح درباً، وآوى يتيماً، فغفرت له بسبب ابنه. فالتفت إلى حواريّيه وقال لهم: هكذا ربّوا أولادكم.

وموقف رابع له عبَّر به عن الموقف من الظَّالمين والمجرمين: “الحقَّ أقول لكم: إنَّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت حتَّى تحترق بيوت كثيرة، إلَّا أن يستدرك البيت الأوَّل فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النَّار محلاً، وكذلك الظَّالم الأوَّل، لو أخذ على يديه، لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النَّار في البيت الأوّل خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً”.

فهو أراد للمجتمع أن يكون حريصاً على الوقوف في وجه الظّلم وهو في مهده، حتَّى لا ينتقل إلى مواقع أخرى ويتعدَّى مداها، بأن يكفَّ يدَ الظَّالم ومن يعينه، حتَّى لا يصل ظلمه إلى الآخرين، وأن يحرص على إطفاء حرائق النَّار التي قد تنشب في البيت الأوَّل، كي لا تصل إلى بيوت أخرى.

موقف أخير في وصيَّته لحواريّيه: “صِلُوا مَنْ قَطَعَكُمْ، وَأَعْطُوا مَنْ مَنَعَكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ سَبَّكُمْ، وَأَنْصِفُوا مَنْ خَاصَمَكُمْ، وَاُعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ يُعْفَى عَنْ إِسَاءَتِكُمْ، فَاعْتَبِرُوا بِعَفْوِ اَللهِ عَنْكُمْ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ شَمْسَهُ أَشْرَقَتْ عَلَى اَلْأَبْرَارِ وَاَلْفُجَّارِ مِنْكُمْ، وَأَنَّ مَطَرَهُ يَنْزِلُ عَلَى اَلصَّالِحِينَ وَاَلْخَاطِئِينَ مِنْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تُحِبُّونَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّكُمْ، وَلاَ تُحْسِنُونَ إِلَّا إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ، وَلاَ تُكَافِئُونَ إِلَّا مَنْ أَعْطَاكُمْ، فَمَا فَضْلُكُمْ إِذاً عَلَى غَيْرِكُمْ؟!”.

الحفاظُ على قيمِ المسيح (ع)

هذه بعض القيم الَّتي دعا إليها السيِّد المسيح (ع)، وقد جاء بعد ذلك رسول الله (ص) من أجل أن يثبِّتها ويؤكِّدها ويدعو إليها ويعمل على أساسها.

إنَّ إخلاصنا للسيِّد المسيح (ع)، كما إخلاصنا لرسول الله (ص)، لا يكون إلَّا عندما ننزل هذه القيم إلى ساحتنا، فهي الَّتي نحتاج إليها، والَّتي بها نبني الحياة، ونصنع المستقبل، وعندها لن يكون الدّين مشكلة للحياة وعبئاً عليهت، كما يصوّره الكفّار، بل هو حلّ لها وإخراج لها من أزماتها.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثَّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله (ص) أحد أصحابه، عندما قال له: “احفَظِ اللَّهَ يحفَظْكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ”، وهذا يتمّ بحفظ الإنسان حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، ومتى حصل ذلك، فسيفي الله له بما وعده به، وهو الَّذي قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. ثمَّ قال: “إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، لأنَّك إن سألت غيره فيسكلك إليه، وإذا استعَنْتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ، لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ، لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ”، وهو قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

أيُّها الأحبَّة: إنَّنا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا التي تدعونا إلى أن نعزِّز علاقتنا بالله، بحيث لا نرى غيره رازقاً ومعيناً وناصراً، ومتى عزَّزنا علاقتنا بالله، فسنكون في عينه ورعايته، وبذلك نكون أقوى وأقدر على مواجهة التحدّيات.

صمودُ غزَّةَ وثباتُها

والبداية من غزَّة التي لا تزال تقدِّم أنموذجاً فريداً في الصَّبر والثَّبات على الموقف، رغم المجازر والتَّدمير الَّذي تتعرَّض له، فيما تستمرُّ مقاومتها بتقديم أمثولات من البطولة والجرأة والإقدام في مواجهة آلة العدوّ العسكريّة، رغم عدم التَّكافؤ في القدرات والإمكانات، وهي تمنعه من التقدّم، وإن هو تقدَّم، لا يتمتَّع بالاستقرار في الأرض الَّتي يتقدَّم فيها، ما يعطيه درساً أنَّه مهما فعل، هو غير قادر على إطفاء جذوتها.

 يحصل ذلك رغم الصَّمت الإقليمي وكلّ الدَّعم الدولي الَّذي لا يزال يحظى به هذا العدوّ، والضّوء الأخضر الذي مُنح له، إلى درجة منع أيِّ قرار يدينه، من دون الأخذ في الاعتبار التَّبعات الكارثيَّة لعدوانه، والجرائم الَّتي نشهدها ويشهدها العالم على الشَّاشات ومواقع التَّواصل، والتي جعلت رئيس الصَّليب الأحمر الدولي يقول: “غزّة تمثّل فشلاً أخلاقياً للمجتمع الدولي”، وما ورد في بيان الأمم المتَّحدة: “غزَّة هي أخطر مكان لعيش الأطفال في العالم”. وإذا كان من انتقادات أو إدانات بدأنا نشهدها من هذه الدول للكيان الصهيوني لاستهداف المدنيّين، إلا أنها ليست بالمستوى الَّذي يدفع العدوّ إلى إيقاف نزيف الدَّم والدَّمار الذي يحصل، بل تبقى في إطار النَّصائح والتمنّيات التي لا يقيم لها العدوّ وزناً أو أهميَّة، ولا تسمن ولا تغني من جوع.

العالمُ العربيُّ مطالَبٌ بالتدخّل

إنَّنا أمام ما يجري، نجدِّد اعتزازنا بهذا الشَّعب ونحيِّي صموده، وندعو مجدَّداً الدول العربية والإسلامية المعنيَّة بهذا البلد، لكونه جزءاً من العالم العربي والإسلامي، إلى اتخاذ مواقف جادَّة لمنع ما يحصل، ووقف تمادي العدوّ في جرائمه بحقّه، وعدم الاكتفاء ببيانات الشَّجب والإدانة لهذا العدوّ، بما قد يشي بالتَّواطؤ معه.

ونحن على ثقة بأنَّ هذه الدول قادرة على التَّأثير إن تكتَّلت جهودها وطاقاتها، وتعاونت في ما بينها، وبادرت إلى اتخاذ مواقف حاسمة، إنَّنا لا ندعوها إلى أن تستخدم أسلحتها في مواجهة هذا العدوّ، بل نرى أنَّ لديها الكثير لتُفعّله، إن على الصَّعيد السياسي أو الاقتصادي أو الدبلوماسي.

وهنا نتساءل: أين أصبحت القرارات الَّتي صدرت عن القمَّة العربيَّة والإسلاميَّة التي انعقدت أخيراً في الرياض؟

إنَّ من المؤسف أن نشهد ارتفاع أصوات ومسيرات تندِّد بكيان العدوّ تخرج من دول الغرب، رغم التضييق الذي يمارس عليها، والتحذير من عواقب تحركها، ولا نشهد ذلك في الدول العربيَّة والإسلاميَّة، وإن خرجت، فهي تبقى دون حجم المأساة التي تحصل في غزَّة.

إنَّ الإبادة التي تحصل في غزَّة وتستكمل في الضفة الغربيَّة، تقتضي من الجميع تجميد كلّ الاعتبارات والحسابات والحساسيات، إن على الصعيد العربي والإسلامي، أو على الصعيد الفلسطيني، التي قد تمنع من اتخاذ مواقف لنصرة الشَّعب الفلسطيني وقضيَّته، فلا بدَّ من أن يكون الموقف موحَّداً في مواجهة ما يجري، وتناسي كلِّ الصّراعات السّابقة، لأنَّ المخاطر لا تستهدف جهة أو فصيلاً أو دولة، بل هي تستهدف القضيَّة الفلسطينيَّة التي هي قضيَّة العرب والمسلمين الأولى، والتي يؤدِّي التفريط بها إلى إسقاط المقدَّسات وكلّ عناوين الحريّة والسّيادة لبلداننا في هذه المنطقة والقيم التي نحملها.

وهنا لا بدَّ من أن ننوّه بكلّ المواقف الجريئة، لكلِّ القوى الّتي تقدم كلّ ألوان الدعم إلى الشعب الفلسطيني، رغم وعيها لأيّ تبعات قد تحصل من وراء ذلك، وندعو إلى المزيد من الدَّعم، حتى يشعر الشعب الفلسطيني بأنه لا يقف وحده في مواجهة هذا الكيان، بل هناك من يقف معه، ومستعدّ أن يشاركه في هذه المواجهة وتحمّل أكلافها الباهظة.

لبنان: لتحصينِ السَّاحةِ الدَّاخليَّة

ونصل إلى لبنان الَّذي لا يزال يقدِّم التضحيات الجسام في مواجهة العدوّ الصهيوني، في ظلّ تمادي هذا العدوّ في اعتداءاته التي وصلت إلى حدّ استهداف المدنيّين في بيوتهم.

إنَّنا اليوم نحيّي بطولات المقاومة وصمود أهالي قرى المنطقة الحدوديَّة، والتضحيات الجسام التي تقدَّم في هذا الطريق، وأخصّ بالذّكر عيتا الشَّعب الّتي قدَّمت حتى الآن تسعة شهداء، فضلاً عن الدَّمار الذي حلَّ بها، في الوقت الَّذي نعيد دعوتنا كلّ اللبنانيين إلى التَّعامل بكلّ جديّة مع التهديدات التي ينقلها الموفدون الدوليّون، والَّتي يريد من ورائها فرض شروطه على هذا البلد والمس بسيادته، والتي تدعو إلى تطبيق القرار 1701 بالشّروط التي يريدها هذا العدوّ، والتي تحمي كيانه، بدون الأخذ في الاعتبار هواجس اللّبنانيّين وخوفهم الدَّائم من غدر هذا العدوّ، والذي أثبته تاريخه وحاضره.

وهذا يدعو إلى تحصين السَّاحة الداخليَّة، وتجميد الخلافات التي تعصف بهذا البلد، وبالعمل الجادّ لسدّ الثّغر الحاصلة على صعيد مؤسَّسات الدَّولة، وملء الفراغات فيها، ولا سيّما في موقع الرئاسة الأولى، باعتباره الأساس في كيان الدَّولة، ولمعالجة كلّ الملفّات العالقة، ولمواكبة ما يجري من مواجهات في الداخل اللبناني أو على صعيد المنطقة.

وهنا نأمل أن ينعكس التوافق الذي حصل في المجلس النيابي، وأدَّى إلى منع الشغور على صعيد قيادة الجيش، على إنهاء الشّغور على صعيد رئاسة الجمهوريّة الَّذي لا يمكن أن يحصل إلا بالتوافق، وبالتَّوافق فقط، وعدم انتظار ــ كما ينتظر البعض – وضوح الصورة في المنطقة، بعد الوصول إلى وقف إطلاق النار في غزَّة، أو ما قد يحصل في الجنوب اللّبناني.

لقد آن الأوان لإنسان هذا البلد أن يعيش في دولة تسهر على استقراره وأمنه، وتعالج الأزمات التي يعانيها على الصَّعيد المعيشي والحياتي.

مناسبةٌ للتَّلاقي

وأخيراً، ونحن نطلّ على ذكرى ميلاد السيِّد المسيح (ع)، نتقدَّم بأحرّ التَّهاني والتبريك للمسيحيّين والمسلمين وكلِّ اللّبنانيّين بهذا اليوم الّذي نريده مناسبةً لتعزيز روح التَّلاقي على القيم الّتي مثّلها السيّد المسيح (ع)؛ قيم الرَّحمة والمحبَّة وخدمة الإنسان كلّه، بعيداً من انتمائه الطائفي أو المذهبي والسياسي، والوقوف صفاً واحداً في مواجهة الظّلم والجور والطّغيان، والعمل لتحقيق العدل الَّذي به يصان العالم.

 

***