وكذلك جعلناكم امة وسطا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.

عندما يصف القران الكريم  المسلمين بأنهم أمة وسط، لا لأنهم كذلك في الأصل، وإنمامن جهة الدور الذي يتوقعه منهم في هذه الحياة بعد أن زودهم بالرسالة المحمدية فالمسؤولية على عاتقهم ليرتقوا الى مستوى هذا الدور وليربوا أنفسهم على سلوك هذا النهج في حياتهم, و يكونوا قدوة و حجة في تطبيق هذه الوسطية, فالشاهد على الآخرين كما ذكرت الآية الكريمة التي تلوناها يفترض به أن يكون في الموقع الأفضل و الأكثر عدالة و المتمتع بالسلوك المتوازن.

 

والوسطية التي يدعو إليها الله هي من "الوسط" ، "ووسط الشيء" في اللغة هو ما بين طرفيه.. ومن معاني الوسط الجميل والشريف والخير.. وهو ما ابتعد عن الإفراط والتفريط وعن الغلو والتقصير، هو تعبير عن الاعتدال والتوازن الذي يطبع حركة الكون: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}..

فالأمة الوسط التي أرادها الله للمسلمين أن يكونوا أنموذجاً لها هي أمة معتدلة في قيمها المادية والمعنوية، فلا تستغرق في الماديات ولا تنصرف كلياً إلى الروحانيات، هي أمة معتدلة في العقيدة، فلا تسلك طريق التطرف والغلو ولا سبيل التقصير والإهمال.. هي أمة معتدلة في أخلاقها وفي عباداتها وتفكيرها وفي علاقاتها وفي جميع أبعاد حياتها، فلا تضرب حول نفسها طوقاً من العزلة، ولا تنسى هويتها فتذوب في كيانات الآخرين.

 

لذلك فإن الوسطية في المفهوم القرآني تختلف اختلافا جذريا عن الوسطية التي قد تطرحها بعض الأطر السياسية أو الدينية والتي هي في الغالب تترجم حيادا سلبيا بين حق وباطل أو موقفا مائعا بين الخير والشر، أو بين العزة والذل، المفهوم القرآني للوسطية هو على النقيض من كل ذلك، الوسيطة في الإسلام موقف إيجابي يؤكد الحق ويثبت أسسه وهي نهج يراعي العدل ولا يتجاوزه، ولا يتخلى عنه.. هي حق بين باطلين واعتدال بين تطرفين وعدل بين ظلمين وتوازن بين نقيضين.

خذ مفهوم الكرم مثلاً، أليس هو وسط بين البخل والتبذير، وكذلك في الشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهور.. الوسطية هي ليست أنصاف الامور.. هذا فهم خاطئ.. الوسطية لا تعني الكمية أو "شوي من هون وشوي من هون" هي ليست منتصف الطريق أبداً. هي طريق بحد ذاته، هي نهج. الوسطية هي موقع السلامة والأمان والاستقامة.

خذوها قاعدة: الوسطية مقياس لتمييز ما هو ديني من غيره لأنها الأكثر اقتراباً من عمق الدين وجوهره، ومن روحه ومقاصده.

 

وفي التفاصيل العملية والحياتية يشير القرآن الكريم وتبين الأحاديث عدة مظاهر للوسطية، نشير إلى بعضها من باب المثال لا الحصر..

– فمن الوسطية في التشريع، أن الإسلام لم يغلّب مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، ولا هو رفع مصلحة الفرد فوق مصلحة المجتمع، بل جعل المصلحتين تتكاملان.. عندما حمّل الفرد مسؤولية المجتمع وحمّل المجتمع مسؤولية الأفراد.

– ومن مظاهر الوسطية في الإسلام نظرته إلى الدنيا والآخرة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}. فوسطية الإسلام هنا تقوم على أن يطبِّع المؤمن العلاقة بين الدين والدنيا، ويوازن بين حاجات الروح وحاجات الجسد، فلا رهبنة ولا انقطاع ولا حرمان من الدنيا {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.. وفي الوقت نفسه لا استغراق فيها بحيث ينسى الآخرة أو تكون على حسابها.وهذا أول ما نبّه اليه الرسول عندما لفته الفهم الخاطئ من بعض أصحابه الذين تركوا تحصيل الرزق وتفرغوا للعبادة. لهذا جاء في الحديث: للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة فيها يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلّ ويجمل.

– ومن موقع  الوسطية يحذر القرآن من الغلو في الفهم الديني، وهو ان تنسب، ومن باب الحب للدين او لرموزه، ما ليس فيه، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}.. وفي الحديث عن رسول الله(ص): "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". ويقول امير المؤمنين: "انما هلك فيّ اثنان محب غال ومبغض قال"

– ومن مظاهر الوسطية ما ورد حول قوله تعالى للإنسان في أسلوب التعامل مع حاجاته: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. فلا بد من التوازن في الطعام والشراب، وهذا من أبرز الوصفات الطبية التي تقي الإنسان الأمراض والأعراض.. والتوازن كذلك في السلوك ونمط الحياة كرفع الصوت والمشي: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير}…

– والوسطية  في الحب والبغض، وهو ما ورد في قول علي(ع): "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ماً".. فلا تحب حباً جارفاً بحيث تعطي من تحب كل أسرارك.. فدائماً "أحسب حساب الرجعة"، فقد يتحول الحب إلى بغض، وعندما تبغض ابق مجالاً لاستعادة من تبغضه، فلا تقطع كل الحبال بينك وبينه..

-والوسطية في الإسلام نراها حتى في الجهاد: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.. فيجوز للإنسان أن يقاتل شرط أن لا يتجاوز الحدود، كأن يقاتل من لا يقاتله في الدين ولم يخرجه من أرضه، أو أن يخالف أخلاق الإسلام في الحرب الذي يدعو إلى الالتزام بأخلاقيات خاصة منها: "لا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً.. ولا تمثلوا بقتيل".

-ونلمسها أيضاً في الأخلاق: حيث ورد في الدعاء: "واغنني وأوسع علي في رزقك  (ولكن )لا تفتني بالنظر، وأعزني (ولكن) لا تبتلني بالكبر، وعبدني لك( ولكن) لا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يدي الخير (ولكن) لا تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق (ولكن) واعصمني من الفخر".

 

أيها الأحبة:

هذه هي وسطية الإسلام، إنها عدل وتوازن، وأرادها الله لنا لأنها ضمانة للاستقامة وعدم الانحراف عن جادة الحق في أي مجال من مجالات الحياة، هي جسر آمن للتعامل مع الآخر، ولأن الوسطية هي التي تجعلك ترى الآخرين من حولك، فمن هو في الوسط قادر أن يرى من على يمينه وشماله.. فلا يكتفي برؤية نفسه..

إننا نعاني في كل واقعنا من هذا الاختلال الذي نجده في الفكر وحتى في فهم السياسية أو الدين.

 اننا نعاني تجاوز الحدود وترك المجال للغرائز والشهوات والعصبيات والانفعالات فنكون كالسيارة التي فقدت كوابحها.

نحن اليوم لا يغيب عن مسامعنا خطاب التطرف باسم الدين، صعودا او نزولا وليس في كل ما نسمعه أي صوت للعقل، وصوت العقل في هذه الحالة هو الوسطية بعينها هو المنقذ هو الامان..  

 

إن من نتائج الفكر الذي تستند اليه الجماعات التكفيرية اليوم ليس فقط القتل والدمار والإفساد في الارض وتنفيرا من الإسلام في الأوساط غير الإسلامية ولكن للاسف من نتائجه أيضاً جنوح من أوساط المسلمين ومن شبابنا إلى الإتجاه المقابل كردة فعل…

 لهذا ومن باب الحرص نقول لكل أبنائنا وإخواننا إن علينا أن لا نجنح كرد فعل على هذا الفكر التكفيري المتطرف إلى فكر يلغي الدين من أساسه… إننا نخشى ان يستغل الجيل القلق هذه الخطايا التي ترتكب باسم الدين الى الذهاب ابعد ما يكون عن الدين . بل علينا ان نبرهن  ان الرد على هذا المنطق لا يكون الا بالعودة الى الاسلام الاصيل الذي لا ينفر منه عقل ولا قلب ، الاسلام الذي بعث رسوله ليتمم مكارم الاخلاق.. الاسلام الذي يجعل منا أناسا افضل لا اسوأ، الاسلام الذي يزيد الحياة جمالا لا قبحا، الاسلام بما هو نفع للناس لا بما هو اضرار.. ان الاسلام بكتابه وتعاليمه بريء من كل تطرف وتعصب، والاسلام الأصيل هو الذي سيجعلنا امة وسطا شهداء على الناس  كما وعد الله في كتابه.. وليس العكس.

 

ايها الاحبة :

ان الوسطية، يجب أن ننظر إليها كأساس قرآني وعقدي متين فهي الأصل وما سواها هو الإستثناء والدخيل، ولا يمكن له الاستمرار وهذا ما بنى الله على اساسه الكون والحياة ..

إن أي فكر الغائي في الدائرة الانسانية مرفوض.. وكما الالغاء والاقصاء في دائرة الدين الواحد فإنه مرفوض وداخل المذهب الواحد مرفوض.. لا يمكن لمنطق الاقصاء او الغلو ان يقبل في مكان ويرفض في مكان آخر. هي قاعدة ونهج واسلوب، وليست مواقف للمسايرة في أوقات الخطر والأزمات.. لهذا علينا بالتربية ثم التربية ولنتحسس انفسنا ونسأل هل ما نعانيه مع الآخرين هو مقبول بيننا.. هل السلفية بمعناها الاقصائي مرفوضة في ساحة، في حين هي مرحب بها او أن ارضنا خصبة لنقبلها في دوائرنا الضيقة؟

 

ان دعوتنا للوسطية يجب أن لا تكون طارئة، بل لان الاسلام هو هكذا، وحياتنا كلها مع الاخر ومع انفسنا ومع داخلنا يجب ان تكون كذلك.. إن الوسطية ليست مجرد موقف من التشدد أو الميوعة في ظواهر محددة، إنما هي منهج فكري يحكم فهمنا للنصوص وكيف نطبقها.. التربية ثم التربية.. والعودة للنهج وللاصالة وللمتانة كل من موقعه

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.. ورد في الحديث: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله"

والحمدلله رب العالمين 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله التي هي الزاد، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. ومن التقوى، الاستهداء بما جرى مع ذي القرنين، الذي تحدّث عنه القرآن في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}. تقول الرواية، إنَّ ذا القرنين عندما أُخبِرَ بوجود رجال حكماء يسكنون جزيرةً، ذهب إليهم ليستفيد من حكمتهم، فسألهم مسائل فأجابوه، ثم قال لهم: سلوني حوائجكم، فقالوا له: نسألك الخلد في الحياة، فقال: وأنى به لنفسي ولا أقدر على زيادة نفس واحد من أنفاسي! فقالوا له: إذا عَرِّفنا بقية آجالنا.. فقال: أنا لا أعرف بقية أجلي، فكيف لي بمعرفة أجل غيري! فقالوا له: إذاً، دعنا نسأل حوائجنا ممن يملك ذلك، فهو أولى بأن نسأله.

أيها الأحبَّة، إنَّ من الحكمة أن نستند إلى الله وحده، وأن نرجع إليه في كلّ أمورنا، فهو من بيده الأمر، فيما غيره محتاج إليه في الصغيرة والكبيرة، ومتى رجعنا إليه، واستندنا إليه، سنجد الأبواب عنده مفتوحة لنا، فبهذه الروح الواثقة بالله، نستطيع أن نخوض معركة الحياة، ونواجه التحديات، وهي كبيرة وكثيرة.

 

غزّة

والبداية من غزة، التي خرجت مرفوعة الرأس عالية الجبين، رغم كلّ مشاهد الدمار التي تشير إلى حجم الجريمة التي ارتكبها العدو بحق الحجر والبشر، ومدى الحقد الذي يكنّه هذا العدو لشعب غزة، ومدى خطره على الإنسانيَّة.

لقد أراد العدو من كلّ هذا الركام والدمار، أن يطمر القضية الفلسطينية، وأن يسقط إنسانها، وأن يجعله ينهزم ويستسلم، ولكنَّ هذا الشعب خرج أقوى وأكثر إصراراً وتصميماً على الثبات في أرضه، وتحريرها من دنس المحتلين، وأعاد إلى القضيَّة الفلسطينية وهجها وحيويَّتها وحضورها.

لقد قدَّمت غزة درساً جديداً للعدو، كالدرس الذي قدّمه لبنان له، وأثبتت أنها لم تعد أرضاً سائبة ومستباحة، يدخل إليها ساعة يشاء وعندما يريد، بل بات عليه أن يحسب ألف حساب قبل أن يكرّر عدوانه.

إنَّ المقاومة في فلسطين انتصرت بأخلاقيتها وإنسانيتها أولاً، وقهرت جبروت الكيان الصهيوني بسلاحها وصبرها وثباتها، عندما وجَّهت سلاحها إلى صدر جيشه وجنوده، بخلاف العدو الذي صبّ جام غيظه على النساء والأطفال والمدنيين، وعمل على الثأر منهم، بعدما عجز عن مواجهة المقاومين الأبطال.

لقد أحرجت غزَّة بوحدتها وقداسة هدفها كلّ الذين صنعوا الحروب الداخليَّة، وأشعلوا نيران الفتن في هذا العالم العربي والإسلامي، لحسابات طائفيَّة أو مذهبيَّة، أو لحسابات خاصَّة، وأظهرتهم على حقيقتهم، وبيّنت أنهم صغار وهامشيون، وقالت لهم بلسان تضحياتها: إن المعركة هنا، والقضية الحقيقية هنا.

كما قدَّمت غزة أنموذجاً في قدرة هذه الأمة على صنع الانتصار، رغم تآمر العالم عليها، وتركها وحيدة لتواجه أعتى عدو في هذا العالم، ورغم الصَّمت المريب على جرائمه وطغيانه، فكان لسان شعبها يقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل". ونحن على ثقة بأنَّ هذا الشَّعب الذي فوَّت على العدو فرصة الانتصار في المعركة العسكريَّة ومعركة الإرادات، سيفوّت عليه فرصة تحقيق المكتسبات التي يريدها في المفاوضات، فهو لن يخضع لحرب الأعصاب والتهويل اللذين يمارسان عليه الآن، وسيبقى موحّداً حتى يحصل على حقوقه.

وهنا، ندعو الشّعوب والدول العربيَّة والإسلاميَّة، وكل أحرار العالم الذين وقفوا مع هذا الشعب، إلى أن يتابعوا دعمهم له، وألا يترك وحيداً في مطالبته بحقوقه الطبيعيَّة في المفاوضات، برفع الحصار البري والبحري عنه، وإطلاق سراح الأسرى، وتقديم الدعم للذين تهدَّمت بيوتهم، وعلاج آلاف الجرحى ممن لا تتسع مستشفيات غزة لهم، لتكتمل صورة النصر.

 

العراق

ونصل إلى العراق، حيث تستمرّ الحرب عليه ممن لا يريدون لشعبه الوحدة والاستقرار، فيما لم تصل بعد مكوّناته السياسية إلى اتفاق حول اسم رئيس الحكومة، ولا على حكومة تؤدي دورها في هذه المرحلة الصعبة.

وفي الوقت الذي ندعو الشعب العراقي وكل مكوناته إلى التلاحم في مواجهة الخطر الداهم، والَّذي لم يقف عند حدود منطقة معينة، ننوِّه بالتعاون الذي جرى بين المكون الكردي والحكومة العراقية، في مواجهة ما جرى ويجري في أربيل والموصل وسنجار، وندعو إلى الإسراع في تشكيل حكومة جامعة فاعلة، تأخذ في الحسبان الواقع التمثيلي للقوى السياسية، حتى تكون ضمانة لاستقرار العراق، في ظل ما يتعرض له من خطرٍ كبير يتمثل في التهجير والقتل، الذي استهدف المسيحيين والإيزيديين والمسلمين، وكل من يختلف مع هؤلاء في الرأي…

 

وهنا، لا بد لنا، وانطلاقاً من مطالبة المطارنة المسيحيين في لبنان بموقف من المرجعيات الإسلامية تجاه ما يجري للمسيحيين في الموصل، من أن نشير إلى كل تاريخ التعايش الذي عاشه المسلمون والمسيحيون معاً، فما يجري في الموصل ونينوى لا ينطلق من جذور إسلاميّة، تعيش الإسلام بعمق ووعي، فالذين يقتلون ويهجِّرون، لا ينطلقون من فتاوى العلماء المسلمين ولا المرجعيات الدينية، وليس لهم أي غطاء ديني، بل لهم منطقهم الخاص والخاطئ الذي ينطلقون منه، مستفيدين من مناخ سياسي دولي وإقليمي بات مكشوفاً، يؤمن لهم كل أسباب الدعم. ومن هنا، فإن المرجعيات الدينية لا تحتاج إلى فتاوى جديدة تطلب منها في هذا الخصوص، فالرأي الإسلامي واضح في ذلك، ولا لبس فيه.

 

لُبنان

ونصل إلى لبنان، الذي نأمل أن يكون قد تخطّى المرحلة الأصعب في تاريخه، وأجهض المشروع الذي كان يريد أن يلحقه بما يجري في العراق وسوريا، من خلال اجتياح بلدة عرسال، واستهداف الجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية، وقد يكون ذلك مقدمة للوصول إلى مناطق أخرى. لقد تمّ إجهاض ذلك بفضل وحدة اللبنانيين، ووقوفهم صفاً واحداً وراء جيشهم، وابتعادهم عن كل الحسابات الطائفية والمذهبية.

إننا ندعو إلى مزيد من تراص الصفوف وتماسكها، وتجاوز الخلافات، فالوقت الآن ليس وقت تسجيل النقاط من هذا الفريق على ذاك أو العكس، أو نبش الماضي وما جرى فيه، أو استحضار الخلافات، بقدر ما هو وقت العمل الدؤوب لدرء الخطر الذي لم ينتهِ بعد، وحماية هذا البلد من الذين يريدون العبث بأمنه، وتحويله إلى ساحة لتنفيس أحقادهم ومشاريعهم التقسيمية، والذين يهددون إنسانه ومقدساته.

إنَّ الدماء التي نزفت من أفراد الجيش اللبناني وضباطه، والتي هي من كل الطوائف والمذاهب، ينبغي أن تكون مدعاة للجميع، لمراجعة سياستهم ومواقفهم ومنطلقاتهم، فالخطر من هؤلاء لن يحدق بدين أو مذهب أو موقع سياسي، بل هو خطر داهم للجميع، ولا يفرق بين فريق وآخر.

وفي هذا المجال، نقدر كلّ دعم يقدّم للبنان لمواجهة الأخطار المحدقة به، وندعو إلى الإسراع في تأمين عناصر القوة للجيش اللبناني، وعدم التباطؤ في هذا الأمر، وخصوصاً في هذا الظرف الصعب الذي يحتاج فيه الجيش إلى الدعم المباشر، لا إلى الكلمات فقط.

إننا ندعو في هذه المرحلة الحاسمة والمصيرية إلى الارتفاع إلى مستوى خطورة ما جرى ويجري، وإلى مزيد من الوعي والتواصل والحوار، وأن تتسارع الحركة السياسية لتثبت الأرض سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتوجيهاً، قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع، والشواهد من حولنا كثيرة، وهي كافية لنأخذ منها كل العبر والدروس.

 
 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 12 شوال 1435هـ الموافق : 8 آب  2014م
 

 

Leave A Reply