كلمة العلامة فضل الله خلال تكريم توفيق بحمد في الاونيسكو

لا يمكن لصغار العقول أن يدركوا ثريّات الحكمة؛ حكمة الله في التنوع والاختلاف، الّتي تشدنا بمشهدها البهي والغني دائماً إلى صراط مستقيم، هو صراط التوحيد والرحمة، حيث لم يصرف الدكتور توفيق بحمد أدبه عن هذه الوجهة، التي ازدان بها الموحدون نشأة وتاريخاً وعلماً وأدباً ورسالة…

 

وتكريمه اليوم هو تكريم للإنسان الذي عاش فيه، هو تكريم للعلم الذي رفض أن يكون عبداً للغواية، وتكريم لڤيتارة الحب والرحمة في ألحان الفكر والأدب، ولأريج إيمانه الراسخ الراسي الذي يكشف عن جمال اللغة وجمال الشريعة، كما هي بعيون الموحدين، بالحكمة، والله يؤتي الحكمة من يشاء.

 

كذلك، يحاول الدكتور توفيق بحمد، وبالأدب الذي تميز به الأدباء الموحدون، أن يلفتنا إلى ما وراء التكريم من ــ كرامة ــ إنسانية، هي قيمة تراثية عليا يدور على محورها الدين، فالدين من أجل الإنسان، والإنسان الذي خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم وأجمل صورة، هو العقل المضيء بالأسماء كلها، نفخ الله فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ليكون في الأرض الخليفة الرباني المتوج بتاج الأمانة واحتمال مسؤولياتها في إعمار الدنيا بسلام الحق والعدل والخير والإصلاح… والتكريم الإلهي للإنسان من وجهة نظر الموحدين، هو تكريم للنوع الإنساني المكتمل والمعتدل في بسط الفضيلة وحمايتها من الفساد وسفك الدماء.

 

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(التغابن:3).

وتلك هي الهبة الإلهية الكبرى التي ندافع عنها اليوم من فلسطين إلى فلسطين، دفاعاً عما في أعماقنا من سر الروح والحياة، فإذا كانت أزمة الصورة الإنسانية في حضارتنا المعاصرة، هي في صدقية الاسم والمعنى والانتماء إلى صورة الإنسان، فهي عند ــ "أمين والنبي" ــ أزمة عقل وأمانة وحرية، بملاحظة إيمان الكاتب ووعيه بأن التكريم الإلهي للإنسان، لم يكن مجرد نياشين وأوسمة وضعها الخالق على صدر تكوينه الأول، وإنما هي في مركز الروح من صلصاله ميثاق شرف وعقل للذي سوّاه وجعله كليماً وأميناً وسميعاً وبصيراً بخاتم الأنبياء محمد… نهض الإنسان بأمانته، كما لو أنه بصورته الحسنى هو الأمين وعقله المصباح…

 

فلا مسافة بين العقل والدين بصريح الحديث الشريف: "إنّ الله أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالعقل والأدلة"، ما يعني أن الهوية الدينية المتجذرة في أعماق الإنسان بعقله المتجدد بالتكريم الإلهي هي أوسع من حدود الهويات العرقية والطائفية والمذهبية. وكونية هذا التوحيد وأمانته هي الإسلام الذي استخدمه القرآن الكريم بمصطلح الإسلام التوحيدي، الذي جمع شمل الأنبياء والمرسلين في شجرة واحدة، وأسرة واحدة، ورسالة واحدة.

وعلى ذلك، لا يمكن تطبيع علاقة الأمة مع ذاتها ومع وجودها الاجتماعي والإنساني، إلا بتطبيع علاقتها مع أسرة التوحيد، وإزاحة ما يعيق الوصول إلى تجلياته في الوحدة المرفوعة أبداً بنداء القرآن: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.

 

وما أجدرنا ــ ونحن في زمن التكفير الإقصائي ــ أن نضطلع بدورنا في تصحيح الصور النمطية المتبادلة بين المذاهب الإسلامية، في سعي للإفراج عن واقعنا السياسي المختنق بشعارات القطع والكراهية والإلغاء، وذلك انطلاقاً من بلورة مفاهيمنا الإسلامية على أسس معرفية قرآنية، بالاحتكام إلى مرجعية العقل وحدوده وموقعه المتناغم والمتصل بمصادر التشريع، وإحياء ما غاب من روح الدين ومقاصده الإنسانية والتوحيدية العليا. وخيارنا في هذا المجال أن نستكمل وسائل البحث العلمي المقارن، ولا سيما في هذا المفصل التاريخي الذي يشهد أهول وأعظم وأخطر مشروع، لا لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين فحسب، بل لوضع الحواجز والسدود بين أبناء الدين الواحد والأمة الواحدة.

وها هنا يأتي دور الكاتب العالم والكتاب المسؤول في ترشيد العقل وتنوير المفكّر لنواحي هذه المخازي؛ مخازي الأمية، ومخازي الجهالات، وفي مقدمها جهل المسلم بالمسلم ومنابذته فيما نراه من عنف أعمى وتطرف أعمى باسم الدين.

وكذلك، تبدأ الفتن من الجهل، وتستعر بالجهل، وتستمر بالجهل الذي يلتهم آخر ما تبقى من عقل الأمة وتوحيدها.

ومن قبل أن توغل الفتن في طريقها إلى العقل الإسلامي، كنا نستدرك ذلك بالدعوة إلى التقريب بين المذاهب، وتحسين العلاقات بين الدول الإسلامية،  وإيلاء الاهتمام بدور التربية والتنشئة والعناية بأدب العرفان والأخلاق في تحصين قيمنا المشتركة التي تناط بها مصائر الأمة وأجيالها.

 

وما تركه لنا الدكتور توفيق بحمد في كتابه "أمين والنبي"، هو تخطيط أدبي واضح لإنقاذ قيم التعارف الموصولة بجوهر معرفة الذات، بوصفها الشرط الموضوعي لسمو العقيدة في الحياة وسمو الحياة في العقيدة، بعيداً عن كل ما يفسدها من نوازع الجهل والجاهلية والتواء الأفكار الضيقة، التي تغتال العقل وتستبيح كرامة الإنسان.

 

 

Leave A Reply